رواية الربيع العربيّ: دكتوراه للزميلة ناصر الدين

مدة القراءة 9 د

حازت الزميلة نهلا محمد ناصر الدين شهادة الدكتوراه اللبنانية في اللغة العربية وآدابها بدرجة جيّد جدّاً من المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية بالجامعة اللبنانية عن بحثها الأكاديمي “الإنسان والزّمان والمكان في رواية الرّبيع العربي | نماذج: كلّ هذا الهراء، الخاتم الأعظم، ورقات من دفتر الخوف”، الذي أشرف على إنجازه الأستاذ الدكتور عاطف حميد عواد.
ينشر “أساس” ملخّصاً عن الدراسة التي تُعتبر من باكورة الأبحاث الأكاديمية التي تناولت تجارب الأدب الروائي المرتبط بالربيع العربي، وقدّمت مقاربةً بحثَت في الوجه الآخر للأزمات التي ما تزال تعصف بالدول العربية، وهو الوجه الأدبي. فقد أفسح ما يُسمّى “الرّبيع العربيّ” المجال للعديد من الكتّاب أن يجدوا فيه مادّةً غنيَّة لأعمالهم التي تناولت الأحداث التي كانت سبباً في خلق أزمةٍ إنسانيَّةٍ مستحدثةٍ على السَّاحة العربيّة ما تزال تتسبّب بقتل الملايين وتهجيرهم.
شكّل “الرّبيع العربيّ” عنواناً لمرحلة تاريخيّة عاشت فيها المنطقة العربيّة منعطفاً حاسماً منذ نهاية العقد الأوّل من الألفية الثالثة. فقد أفرزت هذه الأحداث مادّة دسمة تستمدّ منها بعض الرّوايات العربيّة واقعيّتها المتخيّلة وقوّتها وتوهّجها، وهي أحداث مفعمة بالمشاعر والآلام. وكان لهذا الواقع الأسود الأثر البارز في إسالة المداد وتفجير الكلمات المصوِّرة لتلك الأحداث والمآسي التي تسبر أغوار الشخصيّة العربيّة وتوثّق أحداثاً دامية، وذلك في قالب فنّي إبداعي يزاوج بين الواقعي والمتخيّل.

أفسح ما يُسمّى “الرّبيع العربيّ” المجال للعديد من الكتّاب أن يجدوا فيه مادّةً غنيَّة لأعمالهم التي تناولت الأحداث التي كانت سبباً في خلق أزمةٍ إنسانيَّةٍ مستحدثةٍ على السَّاحة العربيّة ما تزال تتسبّب بقتل الملايين وتهجيرهم

النماذج الروائيّة
عالجت الدّراسة نماذج روائيّة من مختلف الأقطار العربيّة التي توحّدها المعاناة وأزمات التَّغيير المجبول بالفوضى الدَّمويَّة:
– رواية “كلّ هذا الهراء” للكاتب المصريّ عزّ الدّين شكري فيشر التي وثّقت أحداثاً، مثل قضيَّة التَّمويل الأجنبيّ لمنظّمات المجتمع المدنيّ ومذبحة ملعب “بورسعيد” وفضّ اعتصام ميدان “رابعة العدويَّة”، نسج منها الراوي سلسلة من الأحداث والعوالم السّرديّة التي تبدو منفصلة السّياق والملابسات في ظاهرها، إلّا أنَّها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً في عمقها بخيطٍ واحدٍ، هو بطل الرّواية عمر فخر الدّين، ذلك الشّابّ الذي يمثّل عيّنة من شريحة كبيرة من الشّباب المصريّ المثقل بهموم الواقع التي ينتقل أغلبُها إلى إحباطٍ عميقٍ. تطرح هذه الرّواية قضايا اجتماعيّة وسياسيّة غاية في الحساسيَّة، إذ هي أشبه بالتَّعرية الصَّريحة والجريئة للواقع المصريّ وما أدَّى به إلى القيام بتلك “الثَّورة”.
– رواية “الخاتم الأعظم” للرّوائيّ السّوريّ زياد كمال حمّامي التي استطاع فيها الرّاوي أن يُقدّم لنا المأساة السوريّة المستمرّة على طبقٍ فنّيّ تراجيديّ شائق يحمل ما يؤلم السّوريين جميعاً، سواء مَنْ نزح منهم خارج بلده أم حتّى مَنْ بقوا في سوريا على الرّغم من مطاحن الحرب، وذلك بعين ناقدةٍ محايدةٍ منحازة إلى الإنسان فحسب. يشارك بطل الرّواية الدكتور “زين” بإيجابيَّة في كلّ شيء يستطيع فعله، سواء في مشاهد مساعدة النّازحين أو غيرها من مشاهد دراميَّة متضادّة، ويبيّن صراعاته الخلافيَّة الحادَّة، ويحاول طرح أفكاره التي تنادي بالطَّريق الثَّالث في اللّاعنف واللّافوضى واللّاإرهاب. وتتشابك عِقَد الرّواية المتعدّدة تشويقاً وإغواءً واقعياً وجماليّاً، وتمضي مصائر شخوصها إلى النّهايات غير المتوقّعة، ولا نغفل أنّ الكاتب يرسم بسرده مأساة مدينته “حلب” المنكوبة.
– رواية “ورقات من دفاتر الخوف” للكاتب التونسيّ أبي بكر العيادي، وهي رواية تتَّهم السّياسيّين بسرقة “الرّبيع العربيّ”. هذه الرّواية بحسب ما يدلُّ عليها عنوانها تُصوِّر الخوف في أجلى مظاهره، لا بكونه قيمةً فلسفيَّةً، بل بوصفه حالاً عامَّةً تفشَّت في البلاد واستبدّت بالعباد، فتخيّر منها الكاتب أمثلة دالَّة على ما كان النّاس يُعانونه من قمعٍ وتعذيبٍ ونفيٍ واستيلاءٍ على ممتلكاتهم، وما كانت البطانة والحاشية تمارسانه من ابتزازٍ واضطهادٍ وتجاوزٍ للقانون بمباركة طاغيةٍ يسوس شعبه بالقهر، ليُحاول تفسير سكوت التونسيّين مدَّة ثلاثةً وعشرين عاماً عن الظّلم.
تباينت هذه الرّوايات في مستوياتها الفنّيّة مع تسارع الأحداث على الأرض، إلّا أنَّها قدّمت صوراً مختلفة ومتباينة عن دمويَّة المشهد في أعقاب الفوضى التي حلّت بعد ما سُمّي بـ”الرّبيع العربي”. فقد توجّه الكتّاب العرب إلى تحويل إحباطاتهم إلى روايات تستكشف التداعيات السّياسية والاجتماعيّة التي أعقبت تلك “الثورات”، فحقّقت بعض هذه الرّوايات مكانة أدبيّة بارزة، ليس على مستوى المنطقة العربيّة فحسب، وإنّما على مستوى العالم أيضاً.

أقسام الدراسة
قُسّمت الدراسة إلى تمهيد وأربعة أبواب، في كلّ باب ثلاثة فصول، وكلّ فصل منها يعنى برواية من الروايات الثلاث.
الباب الأوّل: بناء المنظور الرّوائي.
الباب الثاني: بناء الزمن الرّوائي.
الباب الثالث: بناء المكان الرّوائي.
الباب الرّابع: بناء الشخصيّات الرّوائية ودلالاتها.
سلّطت الدراسة الضوء على إشكاليَّة أساسيَّة أفرزتها تلك الثَّورات، وتتعلَّق بالإدراك السّائد لمفاهيم الدّولة والمواطنة والمجتمع والحرّيّة والدّيمقراطيَّة في الوطن العربيّ، فمعظم مشاريع الإصلاح في العالم العربيّ كانت تتجاوز مسألة تأسيس الدّولة الحديثة التي تعترف بإنسانها مواطناً مبدعاً، وما تزال عالقةً بمحوريَّة الاستعمار الذي أنشأها قبل دحره عسكريّاً. لقد شهدت بلداننا، في العقود الماضية، استيلاءَ الأنظمة التَّسلّطيَّة على الدّولة وتهميشَها، وحيلولتَها دون ظهور المواطن وتبلور مفهوم الشَّعب، واحتلالَها المجتمعَ والمجالَ العامَّ للموارد والرّموز، واحتكارَها المكان والزّمان والرّواية التّاريخيَّة، وحتّى المخيِّلة.
قامت الدّراسة على فرضيّات، ربّما تُثْبَت أو تُدْحَض من خلال معالجتها وتطبيقها على ما هو نظريّ، وخرجت منها برؤية أساسيَّة. ولكنْ تبقى هذه الفرضيّات في خانة الاحتمال، ويُبْنى عليها للتوصّل إلى إثباتها وتأكيدها أو رفضها ودحضها. وتقوم هذه الفرضيّات على مصادر ومراجع أساسيَّة في العمل البحثيّ، ومنها:
1- مقدرة هذه الرّوايات على تمثّل الوقائع التي أفرزتها “ثورات الرّبيع العربيّ” بشكلّ جزئيّ.
2- عَكْس هذه الرّوايات “روحَ الثَّورة” في عمق المجتمع العربيّ، بعدما درجت في عقود طويلة على إبراز الانكسار وروح الهزيمة.
3- عدم تقديمها رؤيةً نقديّةً لهذه “الثَّورات” في ما خصّ جدليَّة تمويلها من الخارج، وعدم برهنتها على أنَّها وليدة فعليَّة للواقع وأنّ نشوءها جاء ردّاً على استبداد الأنظمة العربيّة.
4- استمرار أَسْرِ المنهجِ البنيويّ البنيةَ الفنّيّة والأدبيَّة لهذه الرّوايات، إذ لم تستطع تقديم حقبة جديدة من تطوّر الرّواية العربيّة، ولا سيَّما في ظلّ تحدّي “رواية ما بعد الحداثة”.
أمّا في ما يتّصل بالمناهج المستخدَمة فانقسم سياق البحث إلى جزءين: الأوّل في البنية السّردية والثاني في البنية الدّلالية.

استنتاجات
توصّلت الدراسة إلى استنتاجات عدّة يمكن الاستفادة منها في عالم رواية الربيع العربي، وإعادة تصويبها إلى حيثما يجب، لتكون شريكاً فاعلاً أو محرّكاً محتملاً في توليد التغيير في مراحل مقبلة. من أبرزها:
لم تستطع هذه الرّوايات أن تثبت مقولة الأدب الذي ولّد تلك “الحركات الثورية” أو “الثورات”، فهي كانت تجسيداً ومثالاً لكلّ الرّوايات العربيّة المتّسمة بروح الهزيمة والانكسار التي رافقت حقبتَيْ النكسة التاريخية عقب احتلال فلسطين في عام 1984، وهزيمة عام 1967. إذ يسير المنتج الإبداعي جنباً إلى جنب مع الحراك الاجتماعي، ربّما يتخطّاه أحياناً وربّما يتأخّر عنه بعض الوقت، لكنّه دائماً يحلّق في فلك هذا الحراك ويعبّر عنه بطريقة جمالية. صحيح أنّ الكتابة الإبداعيّة، في العالم العربي، لم تطلق لنفسها العنان بعد في نهر الرّبيع العربي، على الرغم من ظهور بعض الكتابات السّرديّة والشعريّة والنثريّة هنا وهناك، إلا أنّها تقف موقف المراقب والمترقّب لما يجري في غير بلد عربي من تغييرات اجتماعيّة سياسيّة أطاحت بأنظمة استبداديّة اعتقد الطغاة فيها أنّهم خالدون.
كانت هذه الرّوايات أشبه بفيلم تسجيلي وثائقي عرض بعض الأحداث التي وقعت خلال تلك الفوضى التي سُمّيت بـ”الرّبيع العربي”.
“الرّبيع العربي” هو ظاهرة جديدة، ويُعتقد أنّ تعامل الرّواية والسّرديات العربيّة مع المتغيّرات الاجتماعيّة والسياسية لا يكون عادة سريعاً. ربّما نجد ذلك في الشعر، وأمّا في الرّواية فالمسألة تحتاج إلى اختمار ونضج وتأمّل، لأنّه ستكون هنالك إعادة تشكّل للوقائع والحوادث الاجتماعيّة بحيث يستطيع السّارد/الرّاوي من خلالها أن يراقب ويفحص النتائج والدلالات والمتناقضات المتوقّعة وغير المتوقّعة في مسيرة الشخصيّات وفي مسيرة الأحداث، ولهذا نرى أنّ من المبكر جدّاً الحديث عن تأثير ما سمّوه “الرّبيع العربي” على الأدب، لكن يُعتقد بكلّ تأكيد أنّ الرّبيع العربي سيمدّ الرّواية العربيّة بإحساس جديد بالوعي والتمرّد والرغبة في التغيير، وسيُحدث تغييراً في بنية الخطاب السّردي لصالح الرّواية العربيّة.

إذاً كتابة الثورة والكتابة عن الثورة أمران بينهما فرق شاسع، لكنّهما ينصهران في بوتقة ذلك الكاتب الملتزم الذي يستطيع أن يزاوج بين الثورة كتجربة إنسانيّة طبيعية فريدة وبين الكتابة كملكة وقدرة على الهجرة بالواقع إلى الحلم وتقديمه للقرّاء الذين يمنحونه حيوات أخرى بتأويله وتداوله فيما بينهم. في حين أنّ ما قدّمه هؤلاء الرّوائيون هو الإسهاب في الحديث عن انكسار روح التمرّد عند بعض الشباب واضطرارهم إلى الهجرة، وانسحاب البعض الآخر من الحياة العامّة، وإصابة آخرين بالدهشة، وانجراف غيرهم مع تيّار النظام… حتى إنّ قضية فلسطين التي يفترض بها أن تكون محورية بالنسبة إلى الثورة، وهي جزء تكويني من بنية الشعب العربي المعاصر، لم نجد لها حيّزاً، ولو بسيطاً، من السّرد في الرّوايات الثلاث.
في المحصّلة النهائيّة، يمكن القول إنّ ما حصل ويحصل في المنطقة العربية من أحداث سيكون الفنّ والأدب ميدانه الأبرز لوقت غير قليل، لا سيّما أنّ رصد مثل هذه الأحداث يكون على نحو أفضل كلّما مرّ الوقت عليها واتّضحت ملامح المشهد بشكل جيّد أمام الناظرين.
… على أمل ألّا يبقى التغيير رهينة إحباطات تلجمه ويتوه فيها الإنسان حتّى عن وطنه، ويبقى الزمان والمكان شاهدين على محاولاتٍ ثوريّةٍ مرّت من هنا على شكل أزمات.

مواضيع ذات صلة

“أرض الوهم” لكارلوس شاهين يُكرَّم كأفضل فيلم لبنانيّ

أخيراً، نال الفيلم اللبناني “أرض الوهم” لكارلوس شاهين حقّه في التكريم في بلده، حاصداً جائزة “موريكس دور” كأفضل فيلم لبناني، بعد نيله جائزة سعد الدين…

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…