منذ اللقاء التاريخي بين الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على متن الطرّاد البحريّ كوينسي في شباط 1945، انحصرت العلاقات الأميركية السعودية بين البيت الأبيض والأسرة الحاكمة وشركات النفط الأميركية. واستمرّ ذلك حتى اعتداءات 11 أيلول الإرهابية حين دخل الرأي العامّ في كلا البلدين عاملاً مؤثّراً في مستقبل هذه العلاقات.
كان خمسة عشر شخصاً من الذين نفّذوا الاعتداءات من حاملي الجنسية السعودية، وكان ذلك كفيلاً بفتح تاريخ وحاضر ومستقبل العلاقات على مصراعيه في الولايات المتحدة الأميركية.
تاريخياً نمت العلاقات بشكل ثابت وعميق حتى بلغت ذروتها في عهد الملك الراحل فهد بن عبد العزيز أثناء ولاية الرئيس رونالد ريغان. حينها كانت العلاقات مع الرياض هي الأوثق بين الدول خارج إطار حلفاء واشنطن في أوروبا الغربية وحلف الناتو. وكان التنسيق يتمّ على أعلى المستويات، ويشمل كلّ القضايا الأمنيّة والاقتصادية، والعالمية أيضاً. وذلك من دون الرجوع إلى معاهدات أو اتفاقيات موقّعة.
أزمة ما بعد 11 أيلول تمّ احتواؤها بعد توصّل الولايات المتحدة إلى قناعة بأنّ هزيمة “القاعدة” والفكر الجهاديّ المتطرّف لا يمكن تحقيقها من دون شريك فاعل كالمملكة العربية السعودية
دور بندر بن سلطان
لعب الجانب الشخصي أيضاً دوراً أساسياً في تعزيز هذه العلاقة، وهنا برز دور سفير المملكة آنذاك في واشنطن الأمير بندر بن سلطان الذي كان يُعتبر من أكثر الشخصيّات غير الأميركية نفوذاً في العاصمة واشنطن. وتُوّج النفوذ السعودي في العاصمة الأميركية حين استحصلت الرياض على موافقة الكونغرس الأميركي لشراء طائرات الإنذار المبكر “آواكس”، على الرغم من معارضة شديدة صدرت من أصدقاء إسرائيل في واشنطن.
تميّزت هذه العلاقة بأنّها كانت تتعزّز خارج الاعتبار الإسرائيلي ولا تخضع للتطبيع مع تل أبيب. فتطوُّر العلاقات الأميركية العربية كان دوماً يأتي مع معاهدات سلام مع إسرائيل. وحدها العلاقات مع السعودية كانت لها قوّة دفع ذاتية لا تمرّ عبر تل أبيب.
إيران وأوباما و”النوويّ“
أزمة ما بعد 11 أيلول تمّ احتواؤها بعد توصّل الولايات المتحدة إلى قناعة بأنّ هزيمة “القاعدة” والفكر الجهاديّ المتطرّف لا يمكن تحقيقها من دون شريك فاعل كالمملكة العربية السعودية التي رأت أيضاً في هذا الفكر الإرهابي تهديداً لأمنها واستقرارها. فكان التعاون الأمنيّ الوثيق بين الرياض وواشنطن حتى بداية ما عُرف بالربيع العربي وتخلّي إدارة الرئيس السابق أوباما عن حلفاء تقليديين لواشنطن مثل الرئيس المصري الراحل حسني مبارك. حينها بدأت الهواجس السعودية تتكاثر في ما يتّصل بمدى التزام واشنطن دعم حلفائها، وأصبحت أكثر علانية ووضوحاً مع توقيع الاتفاق النووي مع إيران الذي حصل من دون التنسيق مع الحليف السعودي.
هنا بدأت رحلة “العتب” السعودي على واشنطن. إذ لم يكن خافياً على أحد عدم ارتياح القيادة السعودية والملك الراحل عبد الله للرئيس الأسبق أوباما. فمع إدارته مرّت العلاقات السعودية الأميركية بمرحلة غير مسبوقة من البرودة وعدم التنسيق في الأمور الإقليمية، وتحديداً خلال الأزمة السورية. واستمرّت العلاقات بالتباعد حتى وصول الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وانسحاب واشنطن من المعاهدة النووية مع إيران وبداية مرحلة جديدة من التقارب الأميركي السعودي. يومها بدأت الرياض وواشنطن شهر عسل لم يعكّره إلا اغتيال الصحافي جمال خاشقجي وما رافقه من اتّهامات طالت وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان.
مع ذلك استمرّت إدارة ترامب بدعمها للرياض، وهو ما جعل من العلاقات السعودية الأميركية أمراً داخلياً أميركياً في خضمّ معركة رئاسية، فتحوّلت العلاقات مع الرياض إلى مادّة تراشق وسجال بين الجمهوريين والديمقراطيين. وقد أسّس ذلك لبداية متعثّرة مع إدارة جو بايدن الجديدة.
هناك رغبة سعودية بالاستمرار في تعزيز العلاقات التجارية مع القطاع الخاص الأميركي والمجالات كافّة، تقابلها رغبة أميركية مماثلة
بايدن واليمن والتباعد
العلاقة الوثيقة مع إدارة ترامب أصبحت مع الإدارة الديمقراطية عبئاً على الرياض. لقد كان مبالغةً استراتيجيةً الاندفاعُ السعوديُّ وإبرازُ حماسة متزايدة للرئيس ترامب، وخصوصاً في موسم الانتخابات، لأنّ من شأن ذلك أن يجعل المملكة طرفاً في سجال محلّي أميركي داخلي سيكلّف الرياض حين يصل الديمقراطيون إلى البيت الاأبيض.
بالفعل بادرت إدارة الرئيس بايدن إلى انتقاد الحرب في اليمن ورفعت جماعة الحوثي عن لوائح الإرهاب متذرّعة بالموضوع الإنساني. وازداد مع ذلك العتب السعودي الذي تحوّل لاحقاً إلى “انتفاضة” بوجه واشنطن برزت في الموقف السعودي داخل “أوبك +” الذي رفض تنفيذ رغبات واشنطن بخفض الإنتاج وفي إصرار القيادة السعودية على عودة سوريا إلى الجامعة العربية والتطبيع مع نظام الرئيس بشار الأسد.
إلى ذلك، لم يكن التفاهم الإيراني السعودي منسّقاً مع واشنطن التي تخوض مفاوضات نووية شاقّة مع إيران، إضافة إلى العلاقات التجارية المتزايدة مع الصين، والغرام بين الرياض والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
من الواضح أنّ هناك محاولات أميركية حثيثة لتعزيز العلاقة مع المملكة السعودية، ويبرز ذلك من خلال الزيارات المتعدّدة المعلنة والسرّية لكبار المسؤولين الأميركيين في محاولة لإيجاد قواسم مشتركة والتنسيق في القضايا ذات الاهتمام والمصلحة المشترَكَيْن. ومن اللافت أنّ التباعد الأميركي مع الرياض ازداد مع تبنّي المملكة سياسة إصلاحية وانفتاحاً لطالما كانت واشنطن تحثّ السعودية على القيام به. وهو ما يزيد من قناعة الرياض أنّ هذه الانتقادات لم تكن إلا للضغط على الرياض ولا علاقة لها بحقوق الإنسان والديمقراطية.
محرّك قديم يحتاج إلى صيانة
أصبح جليّاً للطرفين أنّ العلاقات بينهما أصبحت كمحرّك قديم بحاجة إلى صيانة مستمرّة. ومن الواضح أيضاً أنّ طبيعة العلاقات بين البلدين تغيّرت ويجب إعادة رسمها على أسس جديدة واضحة مبنيّة على المصالح لا مزاجيّة الحكّام.
هناك رغبة سعودية بالاستمرار في تعزيز العلاقات التجارية مع القطاع الخاص الأميركي والمجالات كافّة، تقابلها رغبة أميركية مماثلة.
يوطّد العلاقاتِ التركيزُ على المصالح الاقتصادية والاستثمارات. إلا أنّه غير كاف. فمن التحدّيات التي تواجه المملكة السعودية مع الولايات المتحدة هو عدم القدرة على جذب النخب الليبرالية والثقافية الفاعلة والمؤثّرة في الرأي العامّ الأميركي. فالاعتماد على اللوبيات وشركات العلاقات العامّة قد يوطّد العلاقة مع الكونغرس الأميركي والإدارة وبعض وسائل الإعلام، إنّما يزيد من التباعد مع شرائح المثقّفين في المجتمع، فترتفع وتيرة الانتقادات ويزداد العتب السعودي.
إقرأ أيضاً: إيران – السعودية: إمتحان “حقل الدرّة”.. والذكاء الاصطناعي
أمام تحوُّل الإدارة الأميركية إلى الاهتمام بمواجهة الصين والتركيز على تعزيز الزعامة الاقتصادية للعالم، هناك مخاوف من تراجع الاهتمام والتنسيق مع الدول المحورية في المنطقة، وتحديداً المملكة العربية السعودية. إضافة إلى أنّ التركيز الأميركي على الأمور المناخية ومصادر الطاقة البديلة سيقلّل من حاجة واشنطن إلى التنسيق مع الرياض. أمّا في ما يخصّ الصراع العربي الإسرائيلي، فإنّ إسرائيل أصبح لديها ما يكفي من علاقات عربية ولم تعد تعتمد على واشنطن من أجل مدّ جسور مع الدول العربية. وما محاولة إدارة بايدن التوصّل إلى اتفاق سعودي إسرائيلي إلا ورقة انتخابية يريدها الرئيس بايدن في حال حصلت، لكنّها ليست أولوية للبيت الأبيض.
وهناك سؤال حول مستقبل العلاقات في حال عاد ترامب إلى البيت الأبيض وإمكانية عودة الحرارة بين البيت الأبيض والقيادة السعودية. هنا تجدر الإشارة إلى أنّ إدارة ترامب لم تهب للدفاع عن السعودية بعد استهداف أرامكو بالمسيرات الإيرانية وأنّ هناك حدوداً للعلاقات الشخصية إذا ما تعارضت مع المصالح وكان للرأي العام تأثيراً في اتخاذ القرارات.
يبقى أنّ العلاقات الأميركية السعودية ليست في أحسن أحوالها، على الرغم من إدراك الطرفين ذلك. وإذا امتدّت هذه الفترة فسيعزّز ذلك من حجّة البعض بأنّ الطرفين لا يحتاج أحدهما إلى الآخر وأنّ هناك مبالغة في أهميّة المملكة للولايات المتحدة ومبالغة في حاجة المملكة إلى الولايات المتحدة. وإذا تعزّز هذا المنطق فإنّ العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة تكون قد وُضعت على سكّة التباعد.
*خبير في الشؤون الأميركية والدولية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mouafac@