المسيحيّون وحرب غزّة… ليس بالحياد وحده

مدة القراءة 6 د


بدت ردّات الفعل المسيحية العميقة على حرب غزّة بين إسرائيل وحركة حماس أشبه بتمرين على استعادة الماضي أكثر منها تمريناً على قراءة الحاضر واستشراف المستقبل. وهذا في أصله وفصله مشكلة مسيحية بنيوية تتجاوز رأيهم في الحرب الدائرة ومآلاتها وموقع لبنان فيها ومنها، إذ تطال معظم مقارباتهم لمسائل أو قضايا لبنان والمنطقة.

لم يكن خروج المسيحيين على مختلف اصطفافاتهم لتحييد لبنان عن الحرب الدائرة بمستغرب، وهو موقف سليم سياسياً وأخلاقياً، لكنّ تحييد لبنان هذا لا يعني أبداً أن لا يكون هناك يقين بأنّ هذه الحرب تعني لبنان عن قرب لأنّ مفاعيلها بعيدة المدى لا تعني غزّة أو مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فقط، بل تعني أيضاً المنطقة بأسرها بما في ذلك لبنان. كما أنّ هذه الحرب سرعان ما دُوِّلت وأصبحت مسرحاً لصراع القوى الدولية الكبرى عسكرياً ودبلوماسياً، وفي نهاية المطاف يفترض أن ينظر إليها اللبنانيون بوصفها محطة مفصلية على صعيد المنطقة ولبنان.

بدت ردّات الفعل المسيحية العميقة على حرب غزّة بين إسرائيل وحركة حماس أشبه بتمرين على استعادة الماضي أكثر منها تمريناً على قراءة الحاضر واستشراف المستقبل

بالتالي فإنّ مقاربة هذه الحرب من زاوية لبنانية يجب أن تتجاوز مسألة تدخّل الحزب أو عدم تدخّله فيها كما حدود تدخّله و”نوعيّته”، فهذا كلّه يعدّ تفصيلاً من تفاصيل المشهد الكليّ الكثيرة والمعقّدة. إذ أكّدت هذه الحرب أنّ القضية الفلسطينية هي قضية أساسية في المنطقة ومؤثّرة في مختلف مساراتها، وليس الموقف منها محصوراً فقط بالموقف من حركة حماس وأجندتها وارتباطاتها الإقليمية، أو بالموقف من الحزب وأجنداته وارتباطاته أيضاً. هي قضية تفرض نفسها على الجميع ولا يمكن لأحد دولاً أو أفراداً أن يعتبروا أنّهم غير معنيّين بها، لأنّ تجاهلها ليس سوى قصر نظر سياسي واستقالة من المنطقة ومشكلاتها المتداخلة.

مشكلة المسيحيّين

لذلك فإنّ إعادة الاعتبار للسياسة والعقلانية في لبنان تفترض أن تكون هذه القضية في صلب الاهتمام السياسي لأنّها أصبحت، ولا سيما بعد الحرب الأخيرة، المختبر الرئيس للعقلانية في المنطقة، بمعنى أنّ كيفية التفكير في هذه القضية وبلورة المواقف السياسية والأخلاقية منها هي ما يحدّد قدرة الأشخاص والأحزاب على فهم واقع المنطقة وتوقّع مستقبلها والتدخّل كلّ من موقعه في رسمه وتحديد خياراته.

من هذا المنطلق فإنّ استقالة المسيحيين من هذه القضية بسبب ذيول الحرب اللبنانية ومآسيها، أي بدفع من الماضي، هو خطأ سياسي كبير. فالمسيحيون لا يمكنهم إذا أرادوا فعلاً أن يكونوا صوتاً للعقل والضمير أن يقرأوا الحاضر بعيون الماضي وأن يظلّوا عالقين في أدبيّات وسرديّات تجاوزها الزمن، لا بل إنّ ذلك يشير إلى أنّهم غير قادرين على صياغة مشروع جديد ومشروعية سياسية جديدة، ولذلك فهم يستندون إلى مشروعيات الماضي، وهي في غالبيتها مشروعيات مستمدّة من الحرب، كأفق سياسي وحيد لهم، وهذه مشكلة مسيحية كبرى تؤكّد أنّ المسيحيين كما سائر اللبنانيين لم يتجاوزوا الحرب الأهلية.

لقد آن الأوان للمسيحيين أن يطووا صفحة الحرب مرّة نهائية، وهذا خيار صعب وتحدّ شاقّ، لكنّهما ضروريان ومصيريان، لأنّ المسيحيين يجب أن ينخرطوا في المنطقة وقضاياها إذا أرادوا فعلاً أن يكونوا جزءاً من تحديد مساراتها وصناعة مستقبلها وليس من استعادة أثقال الماضي ومآسيه.

لم يكن خروج المسيحيين على مختلف اصطفافاتهم لتحييد لبنان عن الحرب الدائرة بمستغرب، وهو موقف سليم سياسياً وأخلاقياً، لكنّ تحييد لبنان هذا لا يعني أبداً أن لا يكون هناك يقين بأنّ هذه الحرب تعني لبنان عن قرب

الواقع أنّ هذا التحدّي صعب لأنّ الحزب الذي يحذّر ليلاً نهاراً من الحرب الأهلية هو امتداد لهذه الحرب وهو الباقي الأبرز منها بسلوكه اليومي وأدبياته التخوينية وغلبته واللعب على هواه بقرار الحرب والسلم. وليس تدخّل الحزب في هذه الحرب أو عدمه اختبار للبنانيّته كما حاول أن يوحي الوزير السابق سليمان فرنجية بقوله إنّ الحزب أحرص الحرصاء على لبنان. حتى لو تصرّف الحزب بما لا يؤدّي إلى حرب واسعة ضدّ لبنان فإنّ ذلك ليس معياراً لقياس لبنانيّته، بل إنّ ذلك تكتيك سياسي بحت ضمن “محور المقاومة” ولا علاقة له بأيّ مشروع وطني يحمله الحزب. فمشكلة الحزب الرئيسة هي في مكان آخر، وتحديداً في أنّه يأبى أن يخرج من منطق الحرب الأهلية في سلوكه وأدبياته وخلفيّته.

مأساة لبنانيّة

لكنّ ذلك كلّه ليس سبباً كافياً ليستعيض المسيحيون عن الخروج من الماضي الذي يريد الحزب أن يبقوا فيه ليبقى هو هناك وليبقى كلّ اللبنانيين هناك أيضاً. فإذا كان المسيحيون يريدون فعلاً أن ينتمي لبنان إلى العالم، العالم بلا عدالته وبعشوائيّته واختلاط معاييره، إذا كانوا فعلاً يريدون ذلك فعليهم أن يخرجوا بعقلهم من حدود لبنان إلى المنطقة، تلك المنطقة التي يجتمع فيها العالم بأسره بأفكاره وإشكاليّاته وتطوّره واختلالاته، وتحديداً في القضية الفلسطينية التي تستقطب كلّ التيارات الفكرية والسياسية حول العالم في الموقف الراهن منها ومن أصلها، ولذلك فهي ما تزال قضية عالمية بمعنى أنّها مساحة خصبة وغنية بل الأخصب والأغنى للبناء الفكري والسياسي والأخلاقي للأفراد والجماعات حول العالم.

إقرأ أيضاً: وساطة فاتيكانية: البابا يستقبل أهالي الرهائن والسجناء؟

بالتالي فإنّ قراءة المسيحيين لهذه الحرب وتلك القضية بعيون الماضي لا يمكن لعاقل أن يتصوّرها إلا إذا كان المسيحيون فعلاً لا يريدون التطلّع إلى المستقبل والعيش فيه. إنّ هذه الماضوية في التفكير هي عدمية بكلّ ما للكلمة من معنى وستكون قاتلة للمسيحيين. فمأساة الفلسطينيين في غزّة هي أيضاً مأساة لبنانية ومأساة لكلّ أهل المنطقة، ولذلك فإنّ التفكير في كيفية عدم تكرارها مسألة وجودية وأخلاقية وسياسية بالدرجة الأولى، بمعنى أنّ الجزء الرئيس من السياسة في المنطقة وفي لبنان يجب أن ينصبّ في كيفية تجنّب وقوع مأساة كهذه مرّة أخرى. هذا هو السؤال السياسي الأوّل الآن، والإجابة عليه ليست في فلسطين فقط بل في العواصم العربية كلّها بما في ذلك بيروت، لأنّ ما يحصل في غزّة سيؤثّر على المنطقة بأسرها ولأنّ ما يحصل في المنطقة سيؤثّر أيضاً على مستقبل غزّة والقضية الفلسطينية بكلّيتها، فإمّا حلّ للصراع أو استمرار في دوّامة توظيفه فوق دماء الفلسطينيين.

لمتابعة الكاتب على تويتر: eliekossaifi@

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…