على عادة البابوات كلّ أحد، أطلّ البابا فرنسيس من شرفة الفاتيكان. ولكنّ الحدث غير عاديّ: حرب غزّة. حرب فاقت بوحشيّتها وعنفها كلّ حروب إسرائيل السابقة. حصدت حتى كتابة هذه السطور أكثر من 9,000 من أبناء غزّة (بمعدّل 14 إنساناً كلّ ساعة). وأوقعت أكثر من 22 ألف جريح (37 جريحاً كلّ ساعة). كما شرّدت أكثر من مليون ونصف من الفلسطينيين غالبيّتهم مشرّدون أصلاً من قراهم في فلسطين المحتلّة. مشاهد تفطر لها القلوب وتُدمع العيون: طفولة مضرّجة بالدماء. نساء تنتحب. ورجال تصرخ لهول المآسي. فكيف للقلب الأبويّ للبابا فرنسيس أن لا يتحرّك من أجل السلام؟
صلوات من أجل السلام
انشغال البابا بأعمال سينودس الأساقفة الذي انطلق في 4 تشرين الأول لمدّة شهر لمناقشة مستقبل الكنيسة الكاثوليكيّة (سيكون لنا عودة إليه)، لم يمنعه من الاهتمام بالأحداث الدامية التي شهدتها إسرائيل بعد ثلاثة أيام (7 أكتوبر)، وتحوّلت حرب إبادة للشعب الفلسطيني في غزّة. منذ ذلك التاريخ يدعو البابا إلى وقف “جنون الحرب الذي يزرع الموت ويقتل المستقبل”.
يوم الجمعة 27 تشرين الأول شارك في ليلة صلاة من أجل السلام. ويوم الأحد التالي دعا الحاضرين في ساحة القدّيس بطرس والملايين الذين يتابعونه عبر الشاشات إلى الصلاة “من أجل الوضع الخطير في فلسطين وإسرائيل…”. ضمّ صوته إلى صوت الخوري إبراهيم من الأراضي المقدّسة وأطلق صرخته: “أوقفوا النار. توقّفوا أيّتها الأخوات وأيّها الإخوة. فالحرب دائماً خسارة. دائماً. دائماً”. دانَ “الإرهاب” و”الحرب”. دعا إلى إطلاق جميع الرهائن وإيقاف الحرب فوراً وإنهاء حصار غزّة وفتح الطريق أمام المساعدات.
ضغوطات إسرائيليّة على الفاتيكان
منذ 7 أكتوبر يتعرّض الفاتيكان للكثير من الضغوطات من قبل إسرائيل لتبنّي موقف قادتها ودعمهم في حربهم ضدّ غزّة كما فعلت غالبية الدول الغربيّة. هذا ما تؤكّده مصادر دبلوماسية في الفاتيكان. إلا أنّ رأس الكنيسة الكاثوليكيّة لم يرضخ، ولم يعطِ موعداً لوفد من أهالي الرهائن لدى حماس، الذي أتى في إطار الضغوط الإسرائيليّة. ربّما سيستقبل في الأيام المقبلة وفدين، واحداً يضمّ أهالي السجناء الفلسطينيين لدى إسرائيل وآخر يضمّ أهالي الرهائن لدى حماس، بحسب المصادر الدبلوماسيّة.
منذ 7 أكتوبر يتعرّض الفاتيكان للكثير من الضغوطات من قبل إسرائيل لتبنّي موقف قادتها ودعمهم في حربهم ضدّ غزّة كما فعلت غالبية الدول الغربيّة
وساطة لإيقاف الحرب
لم يكتفِ البابا بالصلاة من أجل إيقاف الحرب. إنّما تحرّك دبلوماسياً أيضاً. فاتّصل البابا بكلّ من الرئيس الأميركيّ جو بايدن، الداعم الأوّل لإسرائيل، والرئيس التركي رجب طيّب إردوغان، لما لتركيا من علاقات مع حركة حماس. طلب منهما العمل على إيقاف الحرب بدل تأجيجها. كما زار سكرتير دولة الفاتيكان بيترو بارولين سفارتَي إسرائيل وفلسطين لدى الكرسي الرسوليّ، وعرض لعب دور الوساطة لإيقاف الحرب. واتّصل بطريرك اللاتين في القدس الكاردينال بيترو بيزابالا بالرئيسين الإسرائيلي إسحق هرتزوغ والفلسطينيّ محمود عبّاس ربّما للغاية نفسها. بيد أنّ إسرائيل لا تسمع سوى قرقعة الحرب، ولا تصغي إلا إلى صوت الانتقام الذي تخطّى بأشواط “الدفاع عن النفس” الذي ادّعته إسرائيل. وتحوّل الردّ الإسرائيلي على هجوم حماس إلى حرب إبادة للبشر، وتدمير كامل للحجر، وتهجير جماعيّ لأصحاب الأرض. وهذا أكثر ما يُقلق الفاتيكان لأنّ من شأنه تأجيج الصراع وتمديده في دول المنطقة، ولبنان الأوّل بينها. وهذا أيضاً مصدر قلق للفاتيكان الذي يُبدي اهتماماً خاصّاً بلبنان بسبب الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، والفراغ السياسيّ الذي يهدّد بانهيار ما بقي من دولة ومؤسّسات.
حلّ الدولتين
اهتمام الفاتيكان بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يعود إلى عقود. وموقفه ثابت من حلّ الدولتين. في حديث إلى التلفزيون الايطالي (RAI) قال البابا فرنسيس إنّه “لا يمكن حلّ أيّ شيء بالحرب. يمكن حلّ كلّ شيء بالسلام والحوار… حلّ الدولتين هو حلّ حكيم. اتّفاق أوسلو حدّد دولتين مع قانون خاصّ بالقدس”. هذا ما أكّده أيضاً الكاردينال بارولين، الرجل الثاني في الفاتيكان، في حديث صحافي. إنّه الحلّ الوحيد الذي “يسمح للفلسطينيين والإسرائيليين بالعيش جنباً إلى جنب بسلام وأمان”، كما قال. تجدر الإشارة إلى أنّ “وزير خارجية الفاتيكان” المونسنيور ريتشارد كلاغر، في الجمعيّة العامّة الأخيرة للأمم المتحدة (أيلول 2023)، طالب بالعودة إلى حلّ الدولتين، كما أعرب عن أسفه لسقوط اتفاق أوسلو بعد ثلاثين عاماً على توقيعه. اتّفاق كان من شأنه إحلال السلام في أرض السلام.
مبادرة سلام فاتيكانيّة
منذ انتخابه (2013) أبدى البابا فرنسيس اهتماماً خاصّاً بهذا الصراع بهدف إحلال السلام بين الشعبين الفلسطينيّ والإسرائيليّ. في 2 حزيران 2014 قام بمبادرة سلام وُصِفت بالتاريخيّة، عِلماً أنّها لم تكن وساطة سياسيّة للبحث عن حلول للصراع. دعا الرئيسين الفلسطينيّ محمود عبّاس والإسرائيلي شمعون بيريس إلى لقاء صلاة من أجل السلام، إيماناً منه بأنّ “الصلاة تستطيع تحقيق كلّ شيء. لنستخدمها لإحلال السلام في الشرق الأوسط والعالم أجمع”، كما قال في تغريدة. صلّى الرجلان معاً في الفاتيكان وقاما بزرع شجرة زيتون فيه، رمزاً للسلام. الشجرة نمَت. بيد أنّ الحرب اندلعت بعد شهر في قطاع غزّة (تموز – آب 2014). وها هي اليوم تندلع من جديد وبوحشيّة أكبر.
اهتمام الفاتيكان بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يعود إلى عقود. وموقفه ثابت من حلّ الدولتين
الوجود المسيحيّ والأماكن المقدّسة
إضافة إلى اهتمامه بالسلام العالميّ، يولي الكرسي الرسولي اهتماماً خاصاً بالصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ لسببين: لأنّه صراع يدور في الأراضي المقدّسة وعليها، ولأنّه أدّى إلى تهجير الآلاف من الفلسطينيين المسيحيين.
بحسب التقديرات، كان المسيحيون الفلسطينيون يشكّلون حوالي 11% من السكان. في حين أنّ نسبتهم اليوم حوالي 1% (في إسرائيل والأراضي الفلسطينيّة). هجرتهم جزء من نزيف هجرة مسيحيّي بلدان الشرق الأوسط (لبنان وسوريا والعراق) ولو أنّ أسبابها مختلفة. وهذا النزيف يشكّل مصدر قلق كبير للفاتيكان لسببين رئيسيين: الحفاظ على الوجود المسيحي في الأرض التي انطلقت منها المسيحيّة، والحفاظ على التعايش بين المسيحيّة والإسلام واليهوديّة في المنطقة التي انطلقت منها الديانات الثلاث.
في ما خصّ الأماكن المقدّسة فهي تعني المسيحيين كما تعني المسلمين واليهود، وربّما أكثر. فالأماكن المقدّسة المسيحيّة تنتشر على مساحة جغرافيا فلسطين. فهي في القدس (كنيسة القيامة)، وفي جبل الزيتون (حيث الصخرة التي اتّكأ عليها في صلاته الأخيرة)، وفي بيت لحم (كنيسة المهد) وفي الناصرة (بيت مريم)، وفي قرى الجليل حيث بشّر يسوع. ويريد الفاتيكان أن يتمكّن المسيحيون من الحجّ إلى كلّ هذه الأماكن والصلاة فيها، كما يريد أن يصلّي المسلمون في المسجد الأقصى من دون اضطهاد، وأن يعيد اليهود بناء الهيكل للصلاة فيه.
إقرأ أيضاً: من ديغول إلى ماكرون: فرنسا من العدل إلى الإنحياز..
رؤية سورياليّة للصراع! ربّما. ولكنّها الطريق الوحيد لإحلال السلام في هذه البقعة الصغيرة من الأرض. وإلا فسيستمرّ الصراع الذي يهدّد المنطقة ويهزّ العالم.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@