يتيح رصدُ التغيّرات في اتجاهات الرأي العامّ الغربي الحديثَ عن انقلاب على الصعيد الدولي ورجحان كفّة التضامن مع الشعب الفلسطيني بسبب المجازر المرعبة التي يتعرّض لها المدنيون في غزّة، قياساً إلى غلبة ساحقة للتضامن مع إسرائيل في الأيام الأولى التي أعقبت عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) جرّاء التعميمات الحكومية الغربية بالانحياز إلى الدولة العبرية.
يُطرح السؤال نفسه عمّا إذا كان المعسكر الآخر، الفلسطيني والقوى الحليفة له، قد عدّل من خطابه السياسي على وقع الخسائر بالمدنيين والعملية العسكرية الإسرائيلية داخل غزّة، وتسهيلاً لاتصالات الوسطاء الإقليميين مع إسرائيل وأميركا وبعضهم يطمح إلى حلول سياسية ظلّت مستعصية، وما يزال الوقت مبكراً البحث فيها وفق المعطيات كافّة.
التعديل اللفظيّ… واستفاقة واشنطن على الضفّة
قد يكون طرأ تعديل لفظي وشكليّ على لهجة بعض مسؤولي بعض الدول، مثل تصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونائبة الرئيس كمالا هاريس والناطق باسم البيت الأبيض جون كيربي وبعض القادة الأوروبيين، لكنّه ليس تعديلاً جوهرياً في السياسة. واشنطن ما تزال تستبعد وقف إطلاق النار لأنّ “حماس” “ستستفيد منه”، مع أنّها تتحدّث عن ممرّات وهدنات إنسانية وإيصال مساعدات إلى غزّة وإظهار التعاطف مع المدنيين ليس فقط في القطاع، بل في الضفة الغربية أيضاً، التي استفاقوا على ما تتعرّض له. فإدارة الرئيس جو بايدن كانت تكتفي في الأشهر الماضية بالانتقادات الخجولة والشكلية للاقتحامات الإسرائيلية في الضفة، لا سيما مخيّم جنين، حيث السيطرة المفترضة للسلطة الفلسطينية وحركة “فتح”، ثمّ اكتشفت أنّ حديثها عن تسليم غزّة إلى غير “حماس”، بعد انتهاء العمليات العسكرية الانتقامية، أي إلى جهة تنبثق من السلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة محمود عباس، لا طائل منه بعدما تآكلت صدقية السلطة بفعل اقتحامات المستوطنين والجيش للأقصى ولقرى ومخيّمات الضفّة، وتواصل حجز أموال الضرائب الفلسطينية، التي قرّرت إسرائيل أوّل من أمس الإفراج عن بعضها بطلب أميركي. ذهبت الضغوط الأميركية والإسرائيلية التي أنهكت سلطة أبو مازن إلى حدّ اعتقال أجهزة الأخير لمقاتلين نفّذوا تفجيرات ضدّ جيش الاحتلال. في المقابل لا يهدف تسريب معطيات عن بحثٍ لإخراج مقاتلي غزّة منها، إلا إلى إشغال الإعلام به، نظراً لاستحالة قبول الحركة، مع مواصلة إسرائيل عملياتها الميدانية. كذلك الأمر بالنسبة إلى أحاديث إرسال قوات متعدّدة الجنسيات.
يتحدّث المتابعون لمجريات الحرب الدائرة والمواقف السياسية في هذا الوقت عن تناقض الإشارات التي تبعث بها “حماس”، وسط تعدّد التوجّهات في مواقف بعض قياديّيها
إحياء “حماس” التفاوض على حدود 67
مع ذلك هناك تطوّرٌ لافت صدر عن حركة “حماس” نفسها بإعلان رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية الأربعاء الماضي في الأول من تشرين الثاني جملة مواقف جاء فيها:
– أنّ الحركة قدّمت للأطراف الدولية “تصوّراً شاملاً” يبدأ بوقف العدوان وفتح المعابر وإبرام صفقة لتبادل الأسرى.
– طالب بضرورة استمرار عمل معبر رفح من دون توقّف في الاتجاهين باعتباره معبراً مصرياً فلسطينياً خالصاً.
– تؤيّد “حماس” فتح المسار السياسي لقيام دولة فلسطينية مستقلّة وعاصمتها القدس وحقّ تقرير المصير.
– خاطب الولايات المتحدة الأميركية بالقول “إنّكم تختارون الجانب الخاطئ من التاريخ والحاضر والمستقبل، ولن ينعم الإقليم أو خارجه بالأمن والاستقرار طالما لم تتحقّق لشعبنا حقوقه المشروعة بالحرّية والاستقلال والعودة”.
مرّت إشارة هنية إلى إحياء مفاوضات سياسية حول قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، مرور الكرام نظراً إلى غلبة قرقعة السلاح والمجازر وأخبار الخسائر المدنية الفلسطينية والعسكرية الإسرائيلية.
أعاد كلامه إلى الذاكرة وثيقة “حماس” الصادرة في الأول من أيار 2017 التي أعلنها رئيس المكتب السياسي في الخارج خالد مشعل آنذاك، والتي شكّلت تحوّلاً في ميثاقها السياسي عاد فاختفى من التداول طوال السنوات الست الماضية، ليعود إلى الظهور في الأيام الماضية. فماذا وراء إحياء تلك الفكرة التي قال مشعل في حينها إنّها “وثيقة مبادىء سياسية جديدة تعبّر عن التطوّر السياسي للحركة وانفتاحها، وتعدّ جزءاً من أدبيات حماس وتمهّد لوثائق أخرى في المستقبل”.
عودة إلى وثيقة 2017؟
اقترن ذلك الإعلان بتأكيد مشعل أنّ “الوثيقة ترفض الاعتراف بدولة إسرائيل أو بعمليات السلام بدءاً من أوسلو”، فيما رحّبت حركة “فتح” بذلك الإعلان الذي جاء في سياق جملة مسارات تفاوضية، ومنها المحادثات المتقطّعة بين التنظيمين، بوساطات عربية لإعادة توحيد الساحة الفلسطينية بعد الصدام المسلّح الدموي الذي اجتاحت من خلاله “حماس” قطاع غزّة وأخرجت منه “فتح” عام 2007، نتيجة خلاف على محادثات السلام بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى تقاسم السلطة، لا سيما أنّها حازت أغلبية كاسحة في انتخابات 2006 في القطاع. في ذلك الحين اعتبر مراقبون أنّ نصّ “حماس” على حدود 67 اعترافٌ ضمنيّ بدولة إسرائيل، بينما قالت الحركة إنّ الدولة الفلسطينية مؤقّتة، تاركة المجال للتفسير القائل إنّه لا تسليم بالدولة العبرية. تردّد في حينها أنّ الصيغة الغامضة هدفت إلى كسب اعتراف دولي بالحركة التي كانت واشنطن صنّفتها إرهابية، بينما رفض بنيامين نتانياهو الذي كان رئيساً للوزراء في ذلك الحين التعديلات على ميثاقها واعتبر أنّها “محاولة من جانب حماس لخداع العالم بأنّها تتحوّل إلى جماعة أكثر اعتدالاً”.
ذهبت بعض وسائل الإعلام والفضائيات في تفسير كلام هنية الأربعاء الماضي عن الدولة “وعاصمتها القدس” إلى حدّ أن نُسب إلى مؤتمره الصحافي القبول بصيغة “حلّ الدولتين” على الرغم من أنّه لم يأتِ على ذكره.
عائق “التزام قرارات الشرعيّة الدوليّة”
إلا أنّ المتابعين عن كثب للعلاقات الفلسطينية الداخلية، وللحوارات بين “حماس” وفتح” من أجل المصالحة وتوحيد فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، يسجّلون:
1- أنّ المحادثات التي جرت على مدى السنوات الماضية بين الحركتين الفلسطينيّتين الكبريَين “حماس” و”فتح” برعاية تارة مصرية وأخرى جزائرية، كانت تتوقّف دائماً عند بند “الالتزام بقرارات الشرعية الدولية” فترفضه “حماس” لأنّه يعترف بوجود دولة إسرائيل.
2- حجّة “فتح” أنّ قول “حماس” بحقّ تقرير المصير يقود إلى الاعتراف بالقرارات الدولية وتذكير هنية بهذا الحقّ قبل أيام يعيدان طرح هذه الإشكالية، التي كانت البند الخلافي الرئيسي، إن لم يكن الوحيد.
3- أنّ حديث هنية عن فتح مسار التفاوض السياسي على الدولة هو تسليم ضمنيّ بأنّ المقاومة ليست الخيار الوحيد الذي دأبت “حماس” على التمسّك به.
إشارات متناقضة
يتحدّث المتابعون لمجريات الحرب الدائرة والمواقف السياسية في هذا الوقت عن تناقض الإشارات التي تبعث بها “حماس”، وسط تعدّد التوجّهات في مواقف بعض قياديّيها. يلفت هؤلاء إلى أنّه إذا كان يُستَنتج من كلام هنية تسليح الوسطاء، لا سيما العرب، بموقف سياسي يفتح باب التفاوض، فإنّ خالد مشعل كان متشدّداً. فهو قال إنّ “طوفان الأقصى فتح طريقاً كبيراً نحو إزالة إسرائيل”. وناشد في حديث إلى فضائية “الحدث” روسيا والصين بعدما امتدح موقفيهما في مجلس الأمن، (الداعيين إلى وقف النار والحلّ السياسي والمُدينين لاستهداف المدنيين)، مطالباً بأن “تفعلا أكثر” كدولتين تسعيان إلى معادلة دولية ليس فيها حكم واحد، معتبراً أنّ هذه “فرصتكم”.
إقرأ أيضاً: التفاوض مقفل بانتظار الميدان.. موسكو تخشى توريطها
يتساءل مراقبو موقف “حماس”: “هل هناك توجّهات مختلفة في الحركة، أم يهدف إبداء هنية الاستعداد لفتح المسار السياسي إلى قطع الطريق على خيار تأهيل السلطة الفلسطينية بعد فترة للتفاوض حول مصير غزّة؟ وهل إبقاء مشعل على تشدّده ودعوته إلى إقحام حرب غزّة في سياق الصراع الدولي يعودان إلى غياب أيّ أفق تفاوضي، لأنّ الاتصالات تجري فقط من أجل الإفراج عن الأسرى وبضع مساعدات إنسانية؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@