هل رأيت دمعة تسير؟

مدة القراءة 5 د


سيقلّني قطار بطيء إليها. أجلس كما لو أنّني أحلّق بجناحَي سعدي يوسف ومظفّر النواب لأكون ذلك الولد الطليق الذي يستقلّ الريل (القطار باللهجة العراقية) الذي أبطأ حين سمع تنهّدات تنبعث من تلال الرزّ “مرينا بيكم حمد”.
ليس لي سوى أن أستعين بـ”حمد” الذي أعرفه. ذلك الـ”حمد” الذي لا يكره الشعر ولكنّه يكتفي بأسئلته. “كان العالم أوسع من شباك وفيقة”.
لو كان بدر شاكر السياب حيّاً لشاركني ذلك الرأي الجارح الذي يُحرج المعجبين به. ولأنّني اخترت الذهاب إليها ببطء فقد صار عليّ أن أقلّب أسبابي في مقلاة على نار هادئة. أوّلاً لأنّ بغداد لا تُرى من بعيد. المدينة التي أرادها أبو جعفر المنصور مدوّرة تظلّ محروسة بترف ورخاء محبّيها. أولئك البغداديون الذين لم يكن حمد واحداً منهم أوّلاً وثانياً لأنّ الولد الطليق، وهو الذي عاش حياته القلقة فيها، لم يكن بغدادياً هو الآخر. وثالثاً، وهو الأهمّ، أنّ أنفي ما يزال ممتلئاً برائحة صفصافها. لقد سكنت تلك الرائحة في أعماق روحي، حتى إنّني أبكي حين تمتزج بأنفاسي وتخنقني.

متأخّراً أعود إلى بغداد
على الجانب الأيمن من شارع أبي نؤاس تصطفّ أشجار الصفصاف. سيكون عليّ أن أسقط خطواتي على آثار أقدامي. كلّ خطوة هي دمعة.
هل رأيت دمعة تسير؟
كان عليّ أن أحتاط لما تفعله عيني. سأجد الشعراء مرميّين على الأرصفة. وكان عبد الأمير الحصيري الذي وُلد في النجف ومات في بغداد أوّلهم. لقد كتب شعره كلّه وهو سكران، وكان يمنّي النفس بأن يكون آخر شعراء بني العبّاس بعد الجواهري طبعاً. ولو علم أنّ هناك تمثالاً للجواهري أُقيم بعد موته لعرف كيف يحتال على ملك الموت. “أنا الإله وندماني ملائكتي”، يقول.
رأيته على جسر الأحرار قادماً من الكرخ إلى الرصافة. قال: “نصف دينار يكفي”. ضحكت حين وضعت القصيدة وربعيّة العرق على كفّتَي الميزان. قلت له مازحاً: “أيكفي نصف دينار لكتابة قصيدة؟”. قال: “يكفي لتهذيبها على الورق فلقد كتبتها في رأسي”.

كلّهم ميتون. أصدقائي الذين وهبوني سعادة أن أخاطبهم بلغة أخرى كلّهم ميتون. لكنّ بغداد ليست ميتة. ما يزال في إمكانها أن تضحك من فكرة الموت

حمل العراقيون مئات القصائد في رؤوسهم ولم يكتبوها. سبقتهم الحياة التي لم تكن سريعة وحسب، بل وعنيفة أيضاً. لقد سبقهم العنف إلى الدفاتر فمزّقها. لم يكتبوا أشعارهم. بقي شيء منهم يحوم مثل طيور السنونو على سياجَيْ جسر الجمهورية. ذلك الظلّ الذي فشل الرسّامون في استلهام ضرباته. كلّما توهّمت أنّ شاعراً قد مرّ على الجسر تضربني خفقة جناح لأصحو من حلمي.

البحث عن جان دمو
أنا في بغداد التي طالما حلمتُ أن أضع قدميّ فيها على آثار خطواتي التي لم يكن يراها أحد سواي. لن تضلّلني خطواتي الضائعة. سأتأكّد من يأسي حين أتلفّت باحثاً عن “جان دمو”. فعلى الرغم من أنّني أعرف أنّه مات في أستراليا وقد رأيته آخر مرّة في عمّان قبل سنوات غير أنّني ما أزال أعتبره ضرورياً لأنّه جزء من مدينة الشعر التي تبني طبقاتها اللامرئية فوق سطح المدينة متسلّلة من عروقها.
بعد سنوات اكتشفت أنّنا لم تكن لدينا من غير جان دمو قدرة على رؤية الحياة بطريقة مختلفة. كان الشابّ الذي قدم إلى بغداد ضمن جماعة كركوك (فاضل العزاوي، جليل القيسي، زهدي الداووي، صلاح فائق، أنور الغساني، مؤيد الراوي) يعد بالتخريب أكثر ممّا يعد بالشعر. لذلك عاش الجزء الأكبر من حياته في الشارع. جُمعت أشعاره المتاحة في كتاب شعري صغير اسمه “أسمال”. لا أدري هل رأى نسخة منه قبل وفاته. يصعب عليّ أن أتعثّر بـ”جان دمو” باعتباره جثّة، غير أنّني بسبب كثرة الغائبين سأتخلّى عن حنيني. لقد سبقني الموت إلى مكان كنت أخطّط أن أفاجئه بضحكتي: “لقد عدت”. فإذا بي أجدني غريباً.
كلّهم ميتون. أصدقائي الذين وهبوني سعادة أن أخاطبهم بلغة أخرى كلّهم ميتون. لكنّ بغداد ليست ميتة. ما يزال في إمكانها أن تضحك من فكرة الموت. لن أذهب إلى خان مرجان، لكنّني سأقف في سوق الغزل لأنظر إلى الطيور المهاجرة. إنّها تشبهني. قريباً منه يقع جامع الخلفاء الذي يخطب فيه جلال الحنفي البارع في عروض الشعر وألّف كتاباً كبيراً فيها. ولأنّ كنيسة اللقلق تقع مقابل جامع الخلفاء فقد تذكّرت أنّني نمت ذات ظهيرة في مكتبة الأب إنستاس الكرملي. حفيده كان صديقي وتسلّلنا ذات يوم إلى الكنيسة وحين غلبني النوم نمت في مكتبته. غير أنّني لن أعثر على ذلك الفتى النائم. فلا ذكرى للأب الكرملي في مكتبته. لا أحد يعرفه. تلك مدينة أخرى وليست بغداد.

إقرأ أيضاً: عندما يتحوّل العراق إلى غنيمة حرب

السماء تتكلّم موسيقى
لقد بالغت يا فتى. أحنّ إلى شارع النهر لكنّني لا أجده سوى سؤال مثلما هو مقهى التجّار. حين جلست في ذلك المقهى أوّل مرّة شعرت بأنّ العالم هو حكاية يمكن حكايتها من خلال تتبّع نسيج سجّادتها. بعدما عبرت بالقارب نهر دجلة من الكرخ إلى الرصافة عثرت على المكان الذي يجتمع فيه عشّاق السجّاد قريباً من المدرسة المستنصرية. أمّا حين جلست في باحة المدرسة فقد غيّر إيقاع نافوراتها طريقة نظري إلى السماء. لقد خُيّل إليّ أنّ السماء كلّها مياه تتكلّم بلغة الموسيقى.    

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…