بالتزامن مع خطاب الأمين العام للحزب حول حرب غزّة كانت الشاشات في العالم تنقل صور أهالي القطاع يغادرون بيوتهم من شماله المدمّر، إلى جنوبه. مشاهد بالغة القسوة والأسى لعجائز ونساء وأطفال ورجال تختصر صورة انكسار فظيع بعد معاناة شهر كامل مع القصف الإسرائيلي المتواصل ليل نهار.
الصورتان، صورة نصر الله خطيباً وصورة الغزّاويّين في نزوحهم، تمثّلان ذروة إفلاس خطاب المقاومة الذي يتحمّل، إلى جانب توحّش اليمين الإسرائيلي، جزءاً كبيراً من المسؤولية عمّا وصلت إليه أحوال الفلسطينيين وقضيّتهم. فهذا الخطاب هو خطاب فريق، عمل بكلّ ما أوتي لكي يدمّر فرص السلام والتسوية السياسية على ندرتها، مرتكزاً على فكرة القوّة والقدرة والكفاح المسلّح، لتحقيق تطلّعات الشعب الفلسطيني، ولتكون النتيجة ما يحصل الآن في غزّة من نكبة ثانية للفلسطينيين.
بالتزامن مع خطاب الأمين العام للحزب حول حرب غزّة كانت الشاشات في العالم تنقل صور أهالي القطاع يغادرون بيوتهم من شماله المدمّر، إلى جنوبه
أمام هذه الوقائع، تبرز مساهمة نصرالله اللفظية كمثال صارخ على التبجّح الخالص، بشكل شديد التناقض مع الاحتياجات الملموسة لأولئك الذين يعانون النزوح وتدمير منازلهم وأعمالهم ومستقبلهم. الحقيقة الفاقعة، أنّ ما يحصل يسلّط الضوء على محدودية ميليشيا الحزب كطرف إقليمي مؤثّر في القضية الأساسية التي تبرّر وجودها وهي القضية الفلسطينية، ويفضح عدم فعّاليّتها في تحقيق ما تعِد به، ويلقي الضوء على تفوّقها هي والميليشيات الأخرى في إلحاق الأذى والدمار في طول وعرض العالم العربي.
نصر الله: عواطف… بلا فوائد
يسعد أنصار الحزب، أنّ خطابات أمينهم العام، المشحونة دائماً بالتهديدات النارية ووعود الانتصارات، تستردّ شيئاً من مكانتها في المتابعة الإقليمية، كما حصل مع خطابه الأول منذ بداية حرب غزّة. بيد أنّ إطلالته الثانية، جاءت لتؤكّد تزايد الفجوة بين أقواله وأفعاله. خطاباته المليئة بالتصريحات العاطفية ووعود النصر والإسناد والقتال والتحرير، تبدو بعيدة عن مواجهة الحقائق الصارخة التي تواجه الفلسطينيين، ومصدر إحراج عميق لشخص يقدّم نفسه كبطل للقضية الفلسطينية.
بالنسبة لمئات الآلاف ممّن ألحقت بهم حرب غزّة خسائر فادحة، قتلاً وجرحاً وتشريداً، فإنّ فشل قوات الحزب في تقديم دعم ملموس أو ممارسة تأثير ذي معنى في تخفيف معاناة الفلسطينيين، لا يؤدّي فقط إلى تقوّض مصداقيتها، بل يثير أيضاً تساؤلات حول النيّة الحقيقية وراء استثمارها العاطفي والعقائدي في القضية الفلسطينية. فهل المراد فعلاً هو إيصال القضية الفلسطينية إلى حلول يستحقّها الفلسطينيون؟ أم أنّ ثمّة من يريد استمرار محنة هذا الشعب، وتوظيف أهميّتها العاطفية والوجدانية في الصراع الجيوسياسي في المنطقة ولعبة تقاسم النفوذ؟
لم يتردّد نصرالله في توظيف كلّ الدماء التي سالت وكلّ الدمار الذي حدث ليقول إنّ حرب غزّة أوقفت التطبيع العربي الإسرائيلي، وهو ما لا دليل عليه، وإنّ هذه التضحيات كلّفت إسرائيل 14 مليار دولار خسائر اقتصادية، وتردّياً في سمعتها الدولية!!
فهل من المعقول العثور على فلسطيني واحد، يعتقد بأنّ هذه حسبة عادلة، قبالة مئات الألوف الذين يواجهون تحدّيات يومية للبقاء على قيد الحياة، والحصول على الضروريات الأساسية، أو أولئك الذين يملأ قلوبهم اليأس إزاء المهمّة الشاقّة التي تنتظرهم لإعادة بناء حياتهم؟
في ذروة حاجة الفلسطينيين الماسّة إلى التحرّك لنصرتهم، تحوّل نصر الله من بطل المقاومة الاستباقية إلى شخصية تدعو الآخرين بشكل سلبي إلى الدعاء والصلاة وطلب التدخّل الإلهي
علاوة على ذلك، فإنّ التبجّح بروايات مضلّلة، عن شرعية وشعبية “المقاومة” والدعم الذي يتيسّر لها في العالم، ما هو إلّا لصرف الانتباه عن الحقائق المروّعة على الأرض، الأكثر إلحاحاً وتعقيداً، من نسب تأييد الفلسطينيين أو الاحتجاج على الإسرائيليين. إنّ خطورة مثل هذا التلاعب بعقول وقلوب الفلسطينيين، عبر سرديّات مجازية وعاطفية، تتجاوز تشويه التصوّر العامّ عن الأزمة وطبيعتها ومخاطرها، بل يعيق أيضاً أيّ جهود مبذولة لإيجاد حلول عملية قابلة للتطبيق.
تجلّى خطاب نصر الله الأخير كعلامة من علامات ذروة العبث المقاوماتيّ. لسنوات، نحت الرجل مكانةً لنفسه ولحزبه في سدّة زعامة المقاومة، في المنطقة لا في لبنان وحسب. لطالما حقن خطابه بمزيج مثير من التحدّي والعظمة، مستخدماً الوعد بقتال لا هوادة فيه، لتنكشف حدود ما يسعه القيام به، في خلال واحد من أكثر الفصول المروّعة في التجربة الفلسطينية.
من البطولة… إلى طلب الدعاء
في ذروة حاجة الفلسطينيين الماسّة إلى التحرّك لنصرتهم، تحوّل نصر الله من بطل المقاومة الاستباقية إلى شخصية تدعو الآخرين بشكل سلبي إلى الدعاء والصلاة وطلب التدخّل الإلهي. لا تثير هذه العبثية السخرية فحسب، بل هي تعبير محبط لجمهوره أوّلاً، وللفلسطينيين الذين صدقوا دعايته ثانياً، عن عمق الانفصال بين تصوّراته عن ذاته والحقائق الدامية على الأرض.
نسج “خطاب محور المقاومة”، سردية بطولية تبسيطية غلّف بها الوعي الفلسطيني برومانسية خطيرة ومضلّلة. وُضعَ الفلسطينيون أمام صورة صراع لا هوادة فيه، وقُدّمت هذه الملحمة، لا كسلسلة من المآسي، بل كلوحة من الاستشهاد والتضحية البطولية التي “تحتاج إلى الوقت” كي تزهر انتصاراً مبيناً. جعل التبجّح المقاوماتيّ من آلام وبؤس الشعب الفلسطيني مجرّد خطوات حتميّة ومرغوبة نحو الانتصار بالموت لا الفوز بالحياة. المقلق في هذا التشويه هو التلاقي الضمني بينه وبين السردية المتوحّشة لليمين الإسرائيلي، لأنّه ينطوي على تعميم مرضيّ يشمل جميع الفلسطينيين، بغضّ النظر عن العمر أو الجنس، يحوّلهم إلى رموز للمقاومة بدلاً من الاعتراف بهم كأفراد يتمتّعون بحقوق وتطلّعات وخصوصيّات.
إقرأ أيضاً: إسرائيل تخسر دور الضحيّة
من خلال تمجيد المعاناة والاستشهاد، فإنّ رواية محور المقاومة، التي يعبّر عنها حسن نصرالله، تختزل الهويّة الفلسطينية ببُعد واحد هو الضحيّة المطلقة والتضحية الدائمة، وهو ما يحرمهم بالتالي من الوجود الكريم والمتعدّد الأوجه الذي يستحقّونه، ويعطّل سبل التسويات التي تتيح مثل هذا الأمر، خارج منطق العدالة المطلقة.
إنّ مثل هذا الخطاب، هو جريمة مضافة إلى الجريمة النازلة بحقّ المدنيين الفلسطينيين ممّن أُقحموا في حرب لم يُستشاروا فيها ولم يشاركوا في قرارها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@