خطاب الأمين العام: أرباح “السلم” أكبر من الحرب

مدة القراءة 7 د


قدّم الأمين العام للحزب في خطابه الأخير “الأسباب الموجبة” التي دفعت حركة حماس للقيام بعملية “طوفان الأقصى”، وأضفى الشرعية الأخلاقية والإنسانية والدينية على هذه المواجهة، علماً أنّ مصلحة الفلسطينيين والعرب تبقى في تأكيد قضية فلسطين كعنوان تحرير وطني، لا نقلها إلى أيّ إطار أو صراع ديني، مع الأهمية التي تمثّلها القدس على الصعيد الديني للمسلمين والمسيحيين.

حصر “السيّد” الأسباب الموجبة للعملية بالقدس والمستوطنات وحصار غزّة والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، متجاهلاً كلّياً الأسباب المتعلّقة بتقويض حلّ الدولتين الذي لا يشكّل بنظره، كما بنظر الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حلّاً عادلاً للقضية الفلسطينية.

كما أعلن في خطابه، بعد شهر تقريباً من اندلاع حرب غزّة، أنّه دخل الحرب بعد يوم واحد من اندلاعها، وساق في هذا الإطار مجموعة حجج تبرّر الدور الذي يقوم به الحزب على الجبهة الشمالية لإسرائيل، جنوب لبنان، والذي انحصر بمساندة حماس من خلال إشغال جزء من القوات الإسرائيلية.

قدّم الأمين العام للحزب في خطابه الأخير “الأسباب الموجبة” التي دفعت حركة حماس للقيام بعملية “طوفان الأقصى”، وأضفى الشرعية الأخلاقية والإنسانية والدينية على هذه المواجهة

فهل فعلاً دخل الحزب الحرب؟ وهل استفاد السيّد من دروس حرب تموز ومن نموذج التدمير الوحشي لغزّة، لعدم الانزلاق إلى مواجهة شاملة وتجنيب أهل الجنوب واللبنانيين الكأس المرّة؟ أم أنّ مقتضيات النظام الإيراني رسمت سقوف المشاركة في الحرب؟ 

قواعد الاشتباك.. فوائدها أكبر من الحرب 

إعلان الأمين العام أنّه دخل الحرب على الجبهة الشمالية فتح الشهيّة على تساؤلات متعدّدة ومنها:

 1- إعلان الحرب يعيد طرح إشكالية قرار السلم والحرب في لبنان. إذ ينحصر هذا القرار من الناحية الدستورية بمجلس الوزراء وبأكثرية موصوفة، أي ثلثي أعضاء الحكومة. لكن من الناحية الواقعية، يمكن القول إنّه يُحسَبْ للسيّد بأنّه لم ينخرط فعليّاً في الحرب، إذ ينحصر دور حزبه حتّى الآن بالمدى الذي تتيحه قواعد الاشتباك المتعارف عليها. فحسابات الجمهورية الإسلامية جعلته يخفض سقف أهدافه، التي انحصرت بإشغال القوات الإسرائيلية لتخفيف الضغط عن القطاع. ويعود لحماس أن تقدّر عوائد هذا الإشغال وفوائده الميدانية. كما يعود للحزب أن يقدّر ما إذا كانت الكلفة البشرية التي دفعها حتى الآن (57 شهيداً) تساوي العوائد العسكرية المأمولة من خياره هذا. إلا إذا كان المقصود من كلّ هذا القول إنّنا نشارك في الحرب وفق تصوّراتنا وبما يتوافق مع أجندة الحزب السياسية. 

2- هناك الكثير من الأبعاد السياسية التي تقف وراء قرار الحزب تحويل لبنان بين ليلة وضحاها إلى “دولة مساندة”، بعدما كانت السيناريوهات تتحدّث قبل أشهر عن خطط اختراق الجليل واحتلاله، وضرب الكيان في عمقه بالصواريخ الدقيقة. عدد من الخلفيّات تقف وراء هذا القرار، سواء كان استراتيجياً أم تكتيكياً. وقد يكون ضبط الساحة الجنوبية في حدود قواعد الاشتباك مرتبطاً بغياب مصلحة الجمهورية الإسلامية بتوسيع دائرة الحرب لتشمل الجبهة الشمالية. إذ ترى طهران أنّ الأثمان السياسية لتحييد هذه الجبهة أكبر بكثير من العوائد التي يمكن أن تجنيها من الحرب. وقد يكون لميزان القوى الجديد الذي نشأ من خلال حشد الأساطيل الأميركية دور في ضبط التوجّهات الإيرانية. إذ من المعروف عن الإيرانيين مهارتهم في الحسابات الدقيقة “للكلفة والعوائد”، وقدرتهم على الاستغلال الأمثل لحروب “الواسطة”. والقيادة الإيرانية تنظر الآن بحذر كبير إلى مخاطر خسارة النفوذ الذي تحقّق لطهران من خلال أذرعها المنتشرة في اليمن وسوريا والعراق ولبنان. 

إيران ليست جمعيّة خيريّة 

قطع “السيّد” الشكّ باليقين في خطابه عن دور طهران وحركات المقاومة، بما فيها الحزب، في عملية “طوفان الأقصى”. إذ أكّد أن لا دور أو صلة أو علم لهم جميعاً بهذه العملية. ويمكن القول إنّ هذا الإعلان مهمّ في هذا التوقيت، إذ يعطي حماس زخماً سياسياً باعتبار هذه العملية صناعة فلسطينية، ويحرّرها من تبعات التحليلات، التي لم تتوقّف منذ اندلاع الحرب، عن الدور الإيراني وأهدافه في عملية الأقصى، في وقت تتعرّض حماس مع الشعب الفلسطيني لأبشع حروب الإبادة بتغطية أميركية وأوروبية.

قطع “السيّد” الشكّ باليقين في خطابه عن دور طهران وحركات المقاومة، بما فيها الحزب، في عملية “طوفان الأقصى”. إذ أكّد أن لا دور أو صلة أو علم لهم جميعاً بهذه العملية

حرصُ الأمين العام في خطابه على إظهار عدم وصاية الجمهورية الإسلامية على قرارات حركات المقاومة كان لافتاً في توقيته ومضمونه، وكأنّه يبعث برسالة إلى من يعنيهم الأمر، لتبرئة الجمهورية الإسلامية من عملية طوفان الأقصى ومن الصواريخ والمسيّرات التي تطلَق على القواعد الأميركية في سوريا والعراق. بالطبع، النظام الإيراني ما كان يوماً جمعية خيرية يقتصر دورها على مساعدة حركات المقاومة مادّياً وعسكرياً ومخابراتياً من دون التأثير عليها وعلى قراراتها. لكنّ الرابط الذي يجمع حماس بالجمهورية الإسلامية يختلف عن علاقة هذه الأخيرة بالحزب من الناحيتين العقائدية والتنظيمية. والحزب يتمتّع بهامش في القرارات التي لا تترك انعكاسات على الأوضاع الإقليمية والدولية.

أمّا القرارات التي تنشئ أوضاعاً جيوسياسية جديدة، فهي، وإن كان للحزب رأي فيها، تبقى بيد طهران. وإذا تركنا للعفوية أن تتمكّن من عقولنا لفترة وجيزة، وقبلنا بمنطق عدم الوصاية الإيرانية على حركات المقاومة، ثمّة عدد من التساؤلات:

– ماذا سيكون الموقف من حماس إذا سارت بعد الحرب بالتفاوض على حلّ الدولتين وفقاً لما ألمح إليه إسماعيل هنية في كلمته المتلفزة قبل أسبوع تقريباً من كلمة “السيدّ”؟

– وإذا أخذ التفاوض طريقه، فماذا سيكون موقف الحزب من طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي؟

– وهل يمكن أن نشهد موقفاً للحزب مغايراً لموقف طهران؟

– وماذا سيكون عليه الوضع في الجنوب؟

– هل يذهب الحزب إلى تحرير مزارع شبعا؟

– أم يطلق سراح العملية الدبلوماسية للتحرير والعودة إلى اتفاق الهدنة؟

كلّها أسئلة برسم مرحلة ما بعد الحرب التي ستشهد بالتأكيد مساراً سياسياً مختلفاً وأوضاعاً جيوسياسية جديدة. 

يجب أن لا ينام اللبنانيّون على حرير 

بعد كلمة الأمين العام نهار الجمعة الفائت تنفّس الناس الصعداء، إذ أجمع كثيرون على العقلانية والمرونة اللتين اتّسم بهما الخطاب، وأنّ الخيارات المتعدّدة التي تركها مفتوحة في النهاية تشكّل جزءاً من قواعد اللعبة المشروعة، وتؤكّد عدم دخول الحزب الحرب، بل الاكتفاء حالياً بالمواجهة المحدودة التي تبقى ضمن نطاق قواعد الاشتباك مع التريّث اللافت في عدم رسم خطوط حمر جديدة.

إقرأ أيضاً: ما غاب عن الخطاب

القرار كان نتاج الدروس المستقاة من حرب تموز والسقوف التي حدّدتها طهران لدور الحزب في هذه المرحلة. لقد صدق ميكيافيلي حين اعتقد بأنّ حصة العقل في الأفعال البشرية تبلغ 50%، وحصة الحظّ فيها 50% الباقية. التقت العقلانية حتّى الآن في عدم الذهاب بعيداً في المواجهة، مع حظوظ اللبنانيين والجنوبيين خصوصاً الذين نجوا لغاية الساعة من أيّ مغامرة غير محسوبة. لكن يجب أن لا ينام اللبنانيون على حرير، لأنّ حادثاً واحداً خارج السيطرة قد يؤدّي إلى انزلاق الأمور إلى حرب واسعة.

كما أنّ الخوف الكبير يكمن حالياً في غطرسة بنيامين نتانياهو وحكومته المتطرّفة التي أخذت تستهدف المدنيين في الجنوب، وتنتظر الفرصة السانحة لتصفية الحسابات مع الحزب والانتقام من لبنان وشعبه. الإدارة الأميركية الحالية التي أعطت نتانياهو الضوء الأخضر لتدمير غزّة وقتل شعبها وتهجيره، لن تكترث للبنان. فاحذروا الخبث السياسي لرئيس أميركا جو بايدن ووزير خارجيته أنطوني بلينكن. 

* أستاذ الدراسات العليا في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية. 

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…