قبل إحدى وأربعين سنة، تمكّن الدبلوماسي الأميركي فيليب حبيب من تنظيم خروج القوات الفلسطينية وقائدها ياسر عرفات من بيروت. وذلك بعد قتال مرير شاركت فيه جميع تشكيلات الجيش الإسرائيلي، الجوّية والبحرية والبرّية، وكان القتال بدأ في حزيران 1982 واستمرّ ثمانية وثمانين يوماً.
الخروج الفلسطيني من الحاضنة الأهمّ بيروت، تزامن، ويا لها من لعبة قدر، مع ولادة الحزب وتراجع نفوذ ياسر عرفات.
لا إسرائيل ولا أميركا توقّعتا أنّ من سيخلف الوجود العسكري الفلسطيني القويّ على الساحة اللبنانية سيمتلك نفوذاً أقوى وأعمق بكثير جسّده لبنانيون مهما حاربوا وحوربوا فلا يغادرون، وفي زمن الاحتلال الإسرائيلي لجزء مهمّ من جنوب لبنان حصل الحزب الشابّ على تفويض شامل بقيادة معركة التحرير، وهذا ما لم يحصل عليه الفلسطينيون وقائدهم ياسر عرفات.
الخروج الفلسطيني من الحاضنة الأهمّ بيروت، تزامن، ويا لها من لعبة قدر، مع ولادة الحزب وتراجع نفوذ ياسر عرفات
أثناء وجود الثورة الفلسطينية بعديد قواتها الكبير وسلاحها المؤثّر، اتّخذت معاركها المتقطّعة مع إسرائيل طابعاً دفاعياً. إذ كانت معادلة الوجود الفلسطيني محكومة بتقييد القوات الفلسطينية عن القيام بعمليات عسكرية انطلاقاً من الجنوب، أو ممّا كان يسمّى آنذاك “فتح لاند”. إلا أنّ إسرائيل من جانبها، وردّاً على عمليات المقاومة الفلسطينية في داخلها، كانت تشنّ غارات جوّية حتى على بيروت ذاتها. وقد تمكّنت من إقامة شريط حدودي كعازل “لبناني” يضمّ ميليشيا سُمّيت بـ”جيش لبنان الجنوبي”، بقيادة سعد حداد ثمّ أنطوان لحد.
رحلة عودة عرفات من تونس
حين خرجت قوات الثورة الفلسطينية من لبنان، الجنوب وبيروت أوّلاً، ثمّ طرابلس والبقاع أخيراً، تمّ تعويض منظمة التحرير ممثّل الشعب الفلسطيني الوحيد، بفتح أبواب السياسة أمامها. وكان خروجها من جغرافيا القتال هو بداية دخولها جغرافيا التسوية. وهذا ما حدث أثناء الحقبة التونسية، فمن هناك أُديرت محادثات أوسلو السرّية، ومن هناك كذلك عاد ياسر عرفات إلى بعض الوطن، غزّة وأريحا، ليبدأ رحلة إن بدت واعدة في أوّلها إلا أنّها تحوّلت إلى كارثية في آخرها.
لم تكن ضحيّتها المباشرة عملية سلام وُصفت بالتاريخية، بل أكلت شريكَي المجازفة اغتيالاً.. رابين بطلقات مسدّس وعرفات بالسمّ.
عودة إلى فيليب حبيب الذي قاد دبلوماسية التناوب بين عمله وعمل الجيش الإسرائيلي، حيث كان يمنح المفاوضات فترة هدوء لإنجاح مساعيه، وحين تتعثّر بفعل عناد عرفات وتحايلاته، كانت الطائرات الإسرائيلية تتولّى تذليل العقبات.
بين حنكة فيليب حبيب.. وضعف بلينكن
إلا أنّ ما يجري هذه الأيام، وعلى الرغم من بعض التشابه في الأداء الأميركي – الإسرائيلي قبل إحدى وأربعين سنة، إلا أنّ الاختلاف الأوسع والأعمق تجسّد في جانب منه في الدور الذي أدّاه فيليب حبيب كوسيط لم يعلن أنّه جاء للقضاء على عرفات ورجاله، وإنّما لإنهاء حربٍ شرط إسرائيل فيها خروج القوات الفلسطينية من الجنوب وبيروت.
كان حبيب يفاوض الفلسطينيين من خلال أشقّائهم اللبنانيين الذين أدّوا دور الناقل بموضوعية وأمانة، وفاوض العرب مشجّعاً إيّاهم على استقبال المقاتلين الفلسطينيين في بلدانهم، وضَمِن سلامة عرفات بحيث خرج من ميناء بيروت بوداع رسمي محروساً ببوارج حلف شمال الأطلسي، التي رافقته طوال رحلته البحرية إلى أثينا ثمّ تونس.
بين فيليب حبيب وأنتوني بلينكن، إحدى وأربعون سنة، إن سُجّل فيها نجاحٌ للأوّل، فيبدو مستبعداً نجاح الثاني، وبين الاثنين عدّة إدارات اشتعل الشرق الأوسط دائماً في عهدها… وهذا هو الفشل الأخطر
أنتوني بلينكن، الذي كان دون سنّ الرشد أثناء مهمّة حبيب، جاء إلى إسرائيل وزيراً للخارجية في الأسابيع الماضية، معلناً، بما يدلّ على ضعف حِرفيّته المهنية كوزير خارجية دولة عظمى، أنّه جاء كيهودي للنفاق مع بني دينه في إسرائيل!!
انتقل إلى غرفة عمليات الجيش للمشاركة في حرب اجتثاث حماس متبنّياً توصيف رئيسه جو بايدن بأنّها “داعش”. وفرد العلم الأميركي على أكبر حرب إبادة ضدّ أصغر مكان على وجه الأرض. وبعدما فعل ذلك كلّه توجّه إلى العرب أولاً طالباً منهم الحذو حذوه، وتفهّم ما تفعله إسرائيل على أنّه دفاع عن النفس، مع إشهار موقف استفزازي لكلّ العرب، ولكلّ رافضي الحرب التدميرية على غزّة، بمعارضته لوقف إطلاق النار، والاكتفاء بتنسيقات محدودة لأغراض إنسانية.
كانت بدايات بلينكن تنذر بفشل مهمّته، خصوصاً عند العرب الذين اتّحدوا على موقف سيكون قليل المعرفة بالبديهيات إذا لم يتوقّعه، وهو رفضهم للحرب الانتقامية التي تشنّها إسرائيل على غزّة. ولكي يسدّوا الذرائع عليه، أدانوا قتل الأطفال الإسرائيليين على الرغم من أنّ بلينكن لن يدين قتل الفلسطينيين ولا أطفالهم. وأقصى ما وصل إليه الخطاب أن طلب من الإسرائيليين “الرفق بهم” من دون التأثير على مجرى وفاعلية خططهم العسكرية.
زار المنطقة عدّة مرّات، وكلّ مرّة يحمل طلبات أكثر من إجابات، واللافت إقحامه لبند “من يحكم غزّة بعد انتهاء الحرب”، متجاهلاً أنّ هذا الأمر، كي يكون منطقياً، ينبغي أن تسبقه أولوية إنهاء الحرب. وهذه الأولوية ما تزال مستبعدة عن برنامج الإدارة الذي تديره دبلوماسية بلينكن المتعثّرة.
إقرأ أيضاً: إسرائيل استثمار أميركيّ متعثّر ومحرج ومكلف
بين فيليب حبيب وأنتوني بلينكن، إحدى وأربعون سنة، إن سُجّل فيها نجاحٌ للأوّل، فيبدو مستبعداً نجاح الثاني، وبين الاثنين عدّة إدارات اشتعل الشرق الأوسط دائماً في عهدها… وهذا هو الفشل الأخطر.