من ديغول إلى ماكرون: فرنسا من العدل إلى الإنحياز..

مدة القراءة 7 د


ردّة الفعل الفرنسيّة على “7 اكتوبر” الصادِم، كانت “صادِمة”. أعلن ايمانويل ماكرون عن دعم “كامل” لإسرائيل في “الدفاع عن نفسها”. وأصدر وزير الداخلية جيرار دارمانان قراراً بمنع الترخيص لأيّ تظاهرة تأييد للفلسطينيين ودعم غزّة. لم يتحمّل تغريدة للاعب كرة القدم الفرنسيّ كريم بنزيما دعا فيها إلى الصلاة “من أجل أهالي غزّة الذين يسقطون مرّة أخرى ضحايا القصف غير العادل الذي لا يوفّر نساء ولا أطفال”، فاّتهمه بالعلاقة مع الإخوان المسلمين. كما شُنّت حملة سياسيّة وإعلاميّة ضدّ حركة “فرنسا غير الخاضعة” لأنها لم تُدِن هجوم حماس. في إطار ردّها على هذه الحملة، قالت ماتيلد بانو رئيسة الكتلة البرلمانيّة لـ “فرنسا غير الخاضعة”: “نحن نمثّل الموقف التاريخيّ لفرنسا أقلّه منذ شارل ديغول، أي منذ 60 عاماً”. ما هو هذا الموقف؟

شارل ديغول: من دعم لإسرائيل إلى حظر الأسلحة عنها
في خمسينيات القرن الماضي، كانت فرنسا أوّل الدول الأوروبيّة الداعمة لاسرائيل. زوّدت جيشها بطائرات الميراج 3. وساهمت في تطوير برنامجها النوويّ وبناء مفاعل ديمونا. في حزيران 1960، استقبل شارل ديغول مؤسّس دولة إسرائيل دايفيد بن غوريون، وأعلن عن “روابط الصداقة المتعدّدة والعميقة التي تربط بين فرنسا وإسرائيل، والتي لن تتزعزع”. في تلك الفترة، كانت العلاقات الفرنسيّة – العربيّة سيّئة على خلفية حرب الجزائر.
في العام 1962، انتهت حرب الجزائر. انسحبت القوات الفرنسيّة من المستعمرة السابقة. قرّر الزعيم التاريخيّ إستعادة العلاقات التاريخيّة مع الدول العربيّة التي تشكّل جزءًا من العوالم الجيوسياسيّة المحاذية لفرنسا، ولها فيه مصالح اقتصاديّة وتجاريّة وثقافيّة. ما أثّر سلباً على العلاقات الفرنسيّة – الاسرائيليّة.

كان شارل ديغول ضدّ احتلال اسرائيل لأراضٍ عربيّة لأنها ستواجه حرباً طويلة مع مقاومة فلسطينيّة مرتكزاً إلى تجربة فرنسا في الجزائر

كان شارل ديغول ضدّ احتلال اسرائيل لأراضٍ عربيّة لأنها ستواجه حرباً طويلة مع مقاومة فلسطينيّة مرتكزاً إلى تجربة فرنسا في الجزائر، كما واجهت فرنسا المقاومة الجزائريّة وستضع فرنسا، والغرب، في موقف حرج تجاه الدول العربيّة. منذ العام 1966 راح يحذّر القادة الاسرائيليين من هذه المغامرة. بعد حرب 1967، صوّتت فرنسا في مجلس الأمن الدوليّ لصالح القرار 242 الذي يطالب اسرائيل بالانسحاب من “الأراضي المحتلّة”. وأعلن الزعيم الفرنسيّ “أنّ الحلّ (للصراع الفلسطيني – الاسرائيلي) يجب ان يرتكز على الخروج من الاراضي التي أُخذت بالقوّة، وإنهاء حال الصراع والاعتراف المتبادل بين الدولتين (الفلسطينية والإسرائيليّة)”.
حافظ جورج بومبيدو (1969-1974) وفاليري جيسكار دوستان (1974-1981) على السياسة نفسها التي خطّها مؤسّس الجمهوريّة الخامسة فيما خصّ الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي. فكانت باريس أوّل عاصمة أوروبيّة تعترف بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة ممثّلة للشعب الفلسطينيّ (1974) في وقت كانت اسرائيل تصنّفها إرهابيّة.

فرانسوا ميتران وأوّل زيارة لاسرائيل
فرانسوا ميتران كان أوّل رئيس اشتراكي لفرنسا، وأوّل رئيس يزور دولة إسرائيل (1982) بعد مرور 35 عاماً على تأسيسها. بيد أنّ خطابه في الكنيست أتى منسجماً مع السياسة الفرنسيّة التي رسمها أسلافه من اليمين. فهو أكّد على الصداقة بين فرنسا وإسرائيل، ودعا إلى حلّ الصراع على أساس الدولتين. وأضاف: “يعود للفلسطينيين، كما للآخرين من أيّ أصول كانوا، أن يقرّروا مصيرها بأنفسهم. بشرط وحيد، أن يحترموا حقّ الآخرين بذلك، وان يحترموا القانون الدوليّ، وأن (يعتمدوا) الحوار خياراً بدل العنف”.
في نهاية الثمانينات، انتقد ميتران قمع إسرائيل للانتفاضة الأولى. ودعا منظّمة التحرير الفلسطينيّة إلى التخلّي عن “الكفاح المسلّح السبيل الوحيد لتحرير فلسطين”. في تلك الفترة، بدأ التحضير لمؤتمر السلام العربيّ – الإسرائيليّ الذي سيعقد فيما بعد في مدريد (1991).

حاول ماكرون من خلال زياراته إلى رام الله وعمّان والقاهرة التأكيد على الموقف التاريخيّ الفرنسيّ من الصراع. لكنه لم ينجح

صرخة شيراك في القدس
بعد عام على انتخابه رئيساً (1995)، قام جاك شيراك بزيارة اسرائيل للتأكيد على الموقف التاريخي لفرنسا من الصراع خاصّة بعد مؤتمر مدريد واتفاق اوسلو (1993). كان هذا الموقف يُزعج إسرائيل التي لم تشأ يوماً حلّاً للصراع على أساس الدولتين. ولم تكن نيّاتها صادقة في السلام مع الفلسطينيين الذي اغتالته باغتيال اسحق رابين (1995). وهذا ما بدا واضحاً خلال زيارة شيراك للقدس. إذ قام رجال الأمن الاسرائيليين بمنعه من الاقتراب من الفلسطينيين الذي احتشدوا لاستقباله. فصرخ بوجههم بلغته الإنكليزيّة الضعيفة:What do you want ? Me to go back to my plane and go back to France? This is not a method, this is a provocation. (ماذا تريدون؟ أن أعود إلى طائرتي وأعود إلى فرنسا؟ هذه ليست طريقة، هذا تحريض).
في رام الله، أكّد الرئيس الفرنسيّ للرئيس الفلسطينيّ التاريخيّ ياسر عرفات على موقف فرنسا من الصراع. وتوجّه للإسرائيليين بالقول: “يجب أن تقتنع إسرائيل بأنّ وجود دولة فلسطينيّة ليس تهديداً لها إنما عنصراً أساسياً لأمنها”. ورفض سياسة الاستيطان لأنّ “الاستمرار بها يلغي حظوظ التعايش المتناغم بين الإسرائيليين والفلسطينيين”، على حدّ قوله. وقال للفلسطينيين: “أتكلّم معكم كصديق. أكملوا رافعين غصن الزيتون”.

ساركوزي: انحياز لإسرائيل
في حزيران 2008، زار نيكولا ساركوزي إسرائيل للتذكير بـ “الصداقة” بين الدولتين، وللتأكيد أنّ “إسرائيل ليست وحدها”، وأنّ فرنسا ستكون إلى جانبها “حين يكون وجودها مهدّداً”. نبؤة تحقّقت في 7 اكتوبر؟! ربّما.
موقف ساركوزي بدا منحازاً لاسرائيل. وكلامه عن دولة فلسطينيّة هو من أجل أمن إسرائيل، وليس انطلاقاً من حقّ الشعب الفلسطينيّ بأرض ودولة، كما كان يؤكّد أسلافه. فقال “أنا مقتنع، أكثر من أيّ وقت مضى، أنّ أمن إسرائيل هو بإقامة دولة ثانية، دولة فلسطينيّة”.

هولاند: القدس عاصمة الدولتين
في تشرين الثاني 2013، زار الاشتراكي فرانسوا هولاند إسرائيل للتشجيع على محادثات السلام التي استعيدت في تلك الفترة. وذكّر بـ “موقف فرنسا المعروف. حلّ تكون فيه دولتا إسرائيل وفلسطين، وعاصمتهما القدس، يوجدان بأمن وسلام”.
هل تعود فرنسا اليوم إلى موقفها التاريخيّ من الصراع بعد حماسها الكبير في دعم اسرائيل ضد حماس؟

إقرأ أيضاً: ماكرون في إسرائيل: لتحالف إقليميّ – دوليّ ضد حماس

حاول ماكرون من خلال زياراته إلى رام الله وعمّان والقاهرة التأكيد على الموقف التاريخيّ الفرنسيّ من الصراع. لكنه لم ينجح. مواقف الدعم لاسرائيل كانت أقوى. هذا إضافة إلى أنّ الواقع الجيوسياسيّ للصراع اختلف كلّياً عما كان عليه منذ ستينيات القرن الماضي. إسرائيل لم تترك أرضاً لقيام دولة فلسطينيّة عليها. مستوطناتها في الضفّة، حوّلت المدن والقرى الفلسطينيّة إلى “أرخبيل” على اليابسة. والدعم العربيّ للقضيّة الفلسطينيّة تراجع رغم حماس الشعوب العربيّة لها، خاصّة مع ضعف حركة فتح، وصعود نجم حماس والجهاد الإسلاميّ في المشهد الفلسطينيّ وتحوّلهما أداة بيد إيران يتحرّكان خدمة لمصالحها وتِبعاً لأجندتها الاقليميّة والدوليّة. فالصراع لم يعد فلسطينيّاً – إسرائيلياً ولا عربيّاً – إسرائيلياً، إنما أصبح إيرانياً – أميركياً تدور معاركه على الأراضي الفلسطينيّة والإسرائيليّة، ويمكن أن يتمدّد إلى دول عربيّة أوّلها لبنان.

لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…