“في إسرائيل مجتمعان ومشروعان لا يمكن التوفيق بينهما… وهناك وجوه كثيرة لإسرائيل. هناك إسرائيل تل أبيب، المدينة، المجتمع، والثقافة التي تدير ظهرها للصراع، وتنظر نحو البحر وترى نفسها فقاعة أوروبية بمستوى معيشي مرتفع. ثم هناك إسرائيل أخرى، هي إسرائيل المدن الفقيرة مثل سديروت، التي تقاتل وتدفع الثمن بشدّة في هذه اللحظة. حيث رُمِيَ معظم المهاجرين من شمال إفريقيا. وهؤلاء أكثر حساسية اتجاه الخطاب القومي، ويعتقدون أنهم سيجدون كرامتهم المفقودة هناك”.
هذه خلاصة مقابلة مع الكاتب الإسرائيلي ميشيل وارشوفسكي، وهو صحافي وأحد رموز “حركة السلام” في إسرائيل، وأحد ممثلي الاتجاه المناهض للصهيونية، ومؤسس “مركز معلومات خيارات” الإسرائيلي. كما أنّه مؤلف العديد من الأعمال المنددة بالاحتلال الإسرائيلي.
في مقابلة أجرتها معه صحيفة “لومانيته – L’HUMANITÉ” الفرنسية، اعتبر أنّ الإسرائيليين المقسومين ثقافياً وسياسياً وشعبياً ومناطقياً، تديرهم “حكومة خطاب انتقامي تديرها الغطرسة مع رئيس لها غير قادر على السيطرة على وزراء مجانين ومتوهّمين فيها، يوجّه سياستها المستوطنون..”.
كلّ هذه العناصر بالنسبة إلى وارشوفسكي هو ما أدّى الى حدوث “الكارثة المعلنة” التي تعيشها إسرائيل منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) والتي “كان يمكن تجنّبها” كما توقّع في كتاب له عام 2008 يحمل العنوان نفسه: “الكارثة المعلنة”. وهي عناصر تؤّسس “لحرب أهلية محتملة”.
وهنا نصّ المقابلة مترجماً الى العربية:
– لومانيتيه: يوم 7 أكتوبر يمثل أكبر مذبحة لليهود منذ الحرب العالمية الثانية. كيف اختبرتَ هذه المفارقة المتمثلة في دولة تم إنشاؤها للسماح لليهود المهددين في العالم بالعثور على ملجأ، وأظهرت هنا أنها غير قادرة على حماية مواطنيها وضمان أمنهم؟
– ميشيل وارشوفسكي: هناك صورة ذات مغزى وثيق بهذا الأمر من المؤرخ اليهودي الإنكليزي إسحاق دويتشر: هارب يطارده شخص يهدده بالسكين. فيلتجئ الى أول منزل يجده. ولكن بدلاً من أن يقول للمالكين “معذرة، أنا أخاطر بحياتي في الخارج، سأضطر إلى البقاء معكم لفترة معينة”، يبدأ بسرعة كبيرة، في دفعهم بعيداً عن المدخل باتجاه غرفة المعيشة ومن غرفة المعيشة الى المطبخ، لينتهي الأمر بحصرهم في غرفة التخزين، ويقول لهم في النهاية: “هذا المكان كان لي وسيبقى لي”.
لم يكن اختيار طلب اللجوء أو الحماية هو ما تم اتخاذه، بل خيار العودة والأيديولوجية المتجذرة به. آمل اليوم أن نتمكن من جمع شتات أنفسنا والرهان على المنطق السليم. لقد ورثنا من أسلافنا الخبرة التي خلفتها قرون من حياة الشتات التي تنطوي على قدر معين من الفطرة السليمة والقدرة على الهروب من السلوكيات الانتحارية.
يبدو اليوم أنّ أصوات العقل هذه تحملها في المقام الأول عائلات وأقارب الرهائن وكل الذين سقطوا في المجازر التي ارتكبتها حماس في 7 أكتوبر
– س: ترتفع أصوات في إسرائيل تدافع عن مبدأ تبادل الرهائن لدى حماس في غزة بأسرى فلسطينيين. ما رأيك؟
– آمل أن نتمكن من التوصل إلى مثل هذا الاتفاق. لكن من المؤسف أن هذه الأصوات معزولة، بينما تحرِّك الغطرسة الطبقة السياسية وجزءاً كبيراً من الرأي العام، وهذا ليس بالأمر الجيد. يكرر يوناتان زيجن، نجل ناشطة السلام فيفيان سيلفر التي اختفت منذ الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر، أنّ الانتقام ليس استراتيجية. لكن هل من يسمع ذلك في إسرائيل اليوم؟
بالنسبة لي، هذا أمر منطقي للغاية. لكن البلاد على حافة الهاوية. هذا رأي كثيرين، لكنهم يلتزمون الصمت في الوقت الحالي. ليس فقط خوفاً من التحدث علناً والتعبير عن رأيهم، لكن أيضاً لأنه يتعين عليهم تبرير أنفسهم، وتوضيح أن هذا لا يعني دعم حماس، وما إلى ذلك.
– س: يقول العديد من الناشطين في معسكر السلام في إسرائيل إنهم لم يشهدوا مثل هذا الوضع الكارثي من قبل. هل تشاركهم هذا الشعور؟
– من يقول هذا الكلام هم من الشباب، أو أن ذاكرتهم قصيرة. وأصر على القول إنه من وجهة النظر هذه، فإن الأسوأ قد أصبح وراءنا. لقد شهدنا بين عام 1967 وحرب يوم الغفران 1973، فترة من الإجماع الوطني الشامل. وكانت الأصوات المعارضة اقلية متطرفة اعتُبرت مجنونة، ولم يدرك الناس حقيقة الأمر إلا في عام 1973، وقالوا: “كان هناك شيء من الحقيقة في ما كنتم تقولونه لنا”. وهذا صحيح، فقد مرّ وقت طويل منذ أن شهدنا مثل هذه اللحظات من عزل لأصوات “الفطرة السليمة”، أو حتّى الأصوات المتطرّفة.
يبدو اليوم أنّ أصوات العقل هذه تحملها في المقام الأول عائلات وأقارب الرهائن وكل الذين سقطوا في المجازر التي ارتكبتها حماس في 7 أكتوبر. بالنسبة لهم، الأمر لا يتعلق بالشعارات، إنّه الواقع الملموس. خطاب رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو انتقامي. وهو ليس وحده: جزء كبير من المجتمع الإسرائيلي يؤيد هذه المواقف الشبيهة بإعلان الحرب، على أنغام “سوف ننتصر، سنقضي عليهم”، لكنّهم ليسوا هم من سيدفعون الثمن. على الرغم من أنّ نتانياهو، في رأيي، سينتهي به الأمر إلى أن يدفع شخصياً الثمن.
– س: هل سيدفع نتانياهو فعلاً الثمن السياسي لهذه الأحداث الفظيعة، والدوامة التي أدت إليها؟ وأين تقع مسؤوليته؟
– مسؤوليته كاملة. لم يستطِع تقدير الموقف ولا أن ينتبه إلى ما سيحصل. ولم يستمع لمن حذّره من أنّ الوضع “سينفجر”. كان دائماً يعيش في غطرسة، في عمىً شديد، بشكل سيّء للغاية. حكومته اليمينية المتطرّفة تضمّ مجرمين ومتلاعبين متوهّمين. هذا البلد لا يدار بشكل سيّء فقط، بل إنّه يفتقر إلى الإدارة والقيادة أصلاً.
– س: بوجود هذه الحكومة، زادت شعبية اليمين الديني المتطرف وجيل الألفية والمستوطنين. هل لديهم الآن القوّة العليا في إسرائيل؟
– يتمتع المستوطنون بسلطة هائلة تكفي لتوجيه سياسة الحكومة. ومع ذلك، فإنّ السلطة في إسرائيل تقف أيضاً إلى جانب أصحاب شركات التكنولوجيا الفائقة، التي لا تتوافق مصالحهم مع مصالح المستوطنين. ومن منظور الرأسمالية الحديثة هذه، فإنّ السياسة التي يمثّلها المستوطنون ليست في مصلحة الأعمال. هناك صدع داخل القوى الحاكمة في إسرائيل التي تتوزّع في اتجاهات سياسية مختلفة.
– س: هل يمكن أن يؤدّي ذلك إلى تحوّلات سياسية في المستقبل القريب؟
– لا أحد يعرف. إذا صدّقنا ما تقوله استطلاعات الرأي والصحف، فقد انهارت نوايا التصويت لحزب الليكود بزعامة بنيامين نتانياهو. ومع ذلك، فإنّ الرأي العام الإسرائيلي متقلّب للغاية، ولا أنوي تقديم توقّعات.
– س: الرأي العام الإسرائيلي، حتى المنقسم سياسياً، يؤيّد إلى حدّ كبير الحرب ضدّ غزّة. فكيف يمكن، في ظل هذه الظروف، أن تُسمع أصوات السلام التي تطالب بمخرج سياسي؟
– ناهيك عن المستوطنين، هناك وجوه أخرى كثيرة لإسرائيل. هناك إسرائيل تل أبيب، المدينة، المجتمع، والثقافة التي تدير ظهرها للصراع، وتنظر نحو البحر وترى نفسها فقاعة أوروبية بمستوى معيشي مرتفع. ثم هناك إسرائيل أخرى، وهي إسرائيل المدن الفقيرة مثل سديروت، التي تقاتل وتدفع الثمن بشدة في هذه اللحظة. هذا هو المكان الذي رُمِيَ فيه معظم المهاجرين من شمال إفريقيا، الذين هم أكثر حساسية اتجاه الخطاب القومي، والذين يعتقدون أنهم سيجدون كرامتهم المفقودة هناك. هذه ظاهرة رافقت إسرائيل بشكل دائم تقريباً.
…
– س: هل يكون هذا المجتمع الإسرائيلي الممزّق مستعداً لدفع ثمن الخسائر الفادحة في صفوف الجنود مع احتمال شنّ هجوم برّي في غزّة، وربما اندلاع حريق إقليمي؟
– من الأكيد أنّ تل أبيب غير مستعدة لذلك. والدليل هو سكان هذه المدينة الذين يغادرون البلاد الآن. هم يريدون بشكل خاص التخلص من نتانياهو، هذا واضح تماماً. لقد شهدنا هذه الظاهرة بشكل محدود عام 1967، مع هجرة عدة آلاف من العائلات الميسورة التي شعرت بالخوف الشديد من هذه الحرب التي كانت قادمة، وجاءت.
– س: يهدّد وزير الاتصالات شلومو كارهي الأشخاص المشتبه في أنّهم “يلعبون لعبة العدو” بالملاحقة القضائية ومصادرة ممتلكاتهم. تم تعليق عضوية عضو الكنيست عوفر كاسيف بسبب معارضته للحرب على غزّة. كيف تحلّل هذه التجاوزات الاستبدادية الجديدة؟
– هناك مثال آخر، لقد تم للتو استبعاد محامٍ فلسطيني من نقابة المحامين دون أي إجراء، وذلك لمجرد نشره العلم الفلسطيني على إحدى شبكات التواصل الاجتماعي.
هذا التطور لا يفاجئني لكنّه يخيفني: التدهور شرس وسريع للغاية. لا يوجد مرتكز مشترك للقيم. لقد كان الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي عميقاً دائماً، لكن الأمر أبعد من ذلك.
مراراً وتكراراً طُرِحت عليّ أسئلة عن مخاطر اندلاع حرب أهلية: وقلت دائماً إن ذلك غير ممكن. لكنني اليوم، أقل ثقة بكثير، ولا علاقة له بما يحدث في غزّة. بل لأنّه بكل بساطة توجد إسرائيلان سوسيولوجيتان. نحن نواجه مشروعين اجتماعيين لا يمكن التوفيق بينهما. ناهيك عن وجود أضعف حكومة شهدناها على الإطلاق على رأس البلاد، وكون نتانياهو غير قادر على السيطرة على الوزراء الذين هم بالنسبة للبعض مجانين مهووسون.
– س: لقد بادر وزير الأمن الوطني إيتامار بن غفير إلى توزيع ما يقارب 15 ألف قطعة سلاح على المستوطنين والمدنيين في المدن المختلطة. فهل يريد إشعال الوضع في الضفة الغربية وفي إسرائيل نفسها؟
– هذا يعكس رغبة قسم كبير من الرأي العام والطبقة السياسية في استكمال النكبة على قاعدتهم التالية: “لم ننهِ المهمة تماماً في عامي 48-49، ربما يمكننا القيام إنهاءها الآن”. يرى الفلسطينيون في ما يحدث في غزّة رغبة في طرد جزء من السكان من هذه المنطقة باتجاه سيناء. وهو مشروع مستمر في أذهان بعض القادة الإسرائيليين. قبل عام أو عامين فقط، كنت سأقول لكَ: “هذه أحلام مجنونة”، لكن اليوم لا يمكن استبعاد أي شيء.
إقرأ أيضاً: هيرش يكشف المستور: هذا ما ستفعله إسرائيل بغزّة
فوق هذا، سأخبرك بشيء صعب حدوثه للغاية، لكنني أؤمن به تماماً: إذا استيقظنا ذات صباح لنكتشف أنه لم يعد هناك فلسطينيون، ولا مزيد من العرب، لا في غزة، ولا في الضفة الغربية، ولا في إسرائيل، دون أن نضطر إلى ارتكاب أي خطأ، ودون أن نضطر إلى تلويث أيدينا بسبب ذلك، فإنّ الارتياح سيكون شعور غالبية الإسرائيليين. هذا السيناريو ليس رغبة، بل حلم، وهذا أسوأ. إنّه ليست خطة أيضاً.
* وفقاً لتقرير منظمة العفو الدولية في شأن انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة لصيف عام 1991 تم توقيف “سجناء الرأي الضمير” من الإسرائيليين، ومنهم ميشال وارشوفسكي رئيس مركز المعلومات البديلة، بين شهري تموز وتشرين الثاني لأنه وافق على طباعة منشور من دون التأكد من شرعية الأمر بموجب القانون الإسرائيلي. وكان هذا المنشور من إصدار “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، ويهدف إلى منح المشورة في ما يتعلق بسُبل الصمود أمام التحقيقات.
لزيارة رابط L’HUMANITÉ: إضغط هنا