“الشيعية السياسية” لها جذور منذ ما قبل ولادة “لبنان الكبير” في 1920. وارتباط الشيعة بفلسطين لم يبدأ بعد عملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها حركة “حماس” ضدّ إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) الفائت.
في هذه السلسلة، عودة إلى التاريخ، لنفهم الحاضر، منذ نكبة الشيعة السابقة على نكبة فلسطين، إلى حقبة الإمام موسى الصدر، الإيراني اللبناني، مروراً بالمعارك الشيعية – الشيعية في لبنان، وليس انتهاءً بتسيّد الحزب على المشهد الشيعي في لبنان والمنطقة.
أعادت أسئلة غزّة طرح كلّ تاريخ العلاقة بين الشيعة والقدس، من زيارتها في العشرينيات والثلاثينيات، إلى التفكير في “تحريرها”، منذ الأربعينيات، وليس انتهاءً بطريق القدس التي مرّت في دول عربية كثيرة، فأهدرت دماءً، وغيّرت ديمغرافيا.
في الحلقة الأولى، نقاش حول العلاقة مع فلسطين والوطن اللبناني، من النشوء والتطوّر منذ النكبة وما قبلها، إلى خمسينيات المقاومة الأولى.
شاءت الحركة الصهيونية والدول الاستعمارية الكبرى، وفي مقدّمها بريطانيا، أن تعطي فلسطين، التي لا تملكها، لليهود. لكنّ المنطق شيء، ومجريات الأحداث ومشيئة الدول الكبرى شيء آخر
ارتقت عملية “طوفان الأقصى” إلى مستوى استراتيجي. تداعياتها ما عادت محصورة بالجغرافيا الفلسطينية، المُحرّر منها والمحتلّ. فعلها السياسي والاجتماعي لن يستثني أحداً. أحكام الجغرافيا المجاورة وضعت العالم في صلب نقاش. لبنان سيكون الأكثر تأثّراً، من بين دول أخرى.
هذا البلد المحفوف دائماً بأخطار التاريخ والجغرافيا صار الخوف عليه ومنه أعلى. انبعاث الخوف سببه مكوّناته الأهلية وأدوارها المضطربة على حدّ “سكين” القضية الفلسطينية. جماعاته الأهلية خرجت على الدولة ذات نكبة وقعت عام 1948. كان لبنان الكبير وليداً لم يبلغ أشدّه بعد. والأرجح أنّه لن يبلغ. عملية “طوفان الأقصى” قالت هذا بالانقسام بين حدّين من التعاطف: متطرّف يريد دخول الحرب، وآخر يتضامن إنسانياً ويريد “حياداً” بناء على وجهات تحدّدها المنطقة والإقليم والعالم.
الشيعة وفلسطين… منذ 1948
“الشيعية السياسية” التي دخلت لبنان من بوّابة فلسطين جرّاء تداخل ماضوي سبق عام 1948 اكتسبت “مشروعية” صعودها على قتالها مع الجميع لأجل فلسطين. بدأ بذلك السيد موسى الصدر “مؤسس أفواج المقاومة اللبنانية” تحت شعار “لن نقبل أن يبتسم لبنان ويبقى جنوبه متألّماً” لغياب الدولة عن الصراع على الحدود مع فلسطين المحتلّة.
خاطب الصدر الشهيد ياسر عرفات في الأونيسكو مطلع سبعينيات القرن الماضي مُحدّداً أنّ “شرف القدس لن يتحرّر إلا على أيدي المؤمنين الشرفاء”، مُعلناً أنّ “إسرائيل هي شرٌّ مطلق والتعامل معها حرام”. شعاراته كانت “أسلمة” لمعنى الوطن الفلسطيني يوم بُني على أنقاضه “وطن قومي آمن لليهود في العالم”. كان ذلك أيضاً نقلاً للقضية إلى رحمٍ كانت فيه تتكوّن “شيعية سياسية” في أحد أساساتها طبيعية إيرانية ـ فارسية. تداخل القومي العربي بالقومي الفارسي، وهما نقيضان تاريخيان.
هذه “الشيعية السياسية” بأحد جناحيها، والإيراني تحديداً، ستُعلن ولادة ناجزة في عام 1985 ببيان ذُيّل باسم “حزب الله ـ الثورة الإسلامية في لبنان”. بين التاريخين كانت حركة أمل التي تقلّبت على جنبات القضية الفلسطينية. هذه الجنبات أباحت الجنوب ساحةً للعمل الفلسطيني المسلّح. ما لبثت لاحقاً أن قالت إنّ “أمن المخيّمات من أمن لبنان”. الشعار هذا كان في مضمونه يغازل اليمين شكلاً الذي نادى بشيء فعليّ من هذا القبيل وكلّف البلد انقسامات دموية. إنّما فعلياً كان يستكمل إخراج منظمة التحرير بعد هزيمتها في بيروت عام 1982. بين الاثنين كان اليسار يتآكل ومعه “مشروعية” القضية الفلسطينية.
نبيه بري رئيس حركة أمل قبل أن يصير رئيساً للبرلمان “ضمانة” الديمقراطية بما هي مؤسسات استأنف البدء الذي شرع به الصدر. وضع أولويّتين: الأولى، تحرير الجنوب والبقاع الغربي. الثانية هي تحرير فلسطين وفقاً لما أعلنه المؤسّس. وما لبث أن قاد ما عُرف بـ”حرب المخيّمات” فأثخن العلاقة مع الفلسطينيين بجراح كثيرة وندوبٍ أكثر في نهاية الثمانينيات. راحت حمّى التنافس بين جناحَي “الشيعية السياسية” تستعر حتى بلغت جنوناً حربياً تكرّر مرّتين وأطبق على “الأهل والجماعة” في حربين قبل بداية عقد التسعينيات. من عدّة الحرب والصعود كانت مجدّداً “المشروعية” لما وراء الحدود الجنوبية.
قراءة تاريخ الشيعة القديم والمعاصر تستحيل بعيداً عن أحداث فلسطين. بل لا يمكن قراءته إلا في ضوء ما كان يجري منذ الحملات الصليبية حتى قيام الكيان الإسرائيلي
تصدير الثورة الخمينيّة
في الأثناء، راحت الخمينية من إيران تصدّر ثورتها على قاعدة “تحرير فلسطين”. حصل ذلك على أيدي “حرس الثورة” الذي جاء إلى لبنان عام 1982 مُدرّباً لمجموعات شبابية تنوّعت مسمّياتها بتنوّع أدوارها، وأبرزها خطف الطائرات والرهائن لخدمة الصعود الإيراني في الإقليم والعالم. حينها راحت المنطقة العربية تهتزّ اهتزازاً شديداً ويتزعزع معها أمنها القومي. حتى “العروبة” طالها ما طالها من ابتذال سياسي جرّاء عسكريتاريا الأنظمة والحركات المسلّحة.
ما يجري في غزّة اليوم لن تقف آثاره ونتائجه حين تتوقّف آلة الحرب الإسرائيلية. النتائج والآثار ستستمرّ طويلاً. ستطال مواقف كلّ العرب، فرادى ودولاً وأقلّيات وجماعات. ستبني مستقبلها في المقبل من السنوات، تماماً كما نعيش اليوم تحت سقوف أعمدة بنتها نكبة فلسطين قبل 75 عاماً.
تضامن عسكريّ من إيران
موقف الشيعة، وتحديداً الحزب، ومن خلفه إيران، ممّا يجري في غزّة اليوم من حرب إبادة تشنّها إسرائيل على أهل القطاع وفلسطين عموماً، لا يزال موضع أخذ وردّ، واتّهامات. ساعةً بوقوفهما خلف ما يجري ودعمه وتمويله حتى ليقال إنّ “طوفان الأقصى” صُنع في إيران. وساعة أخرى بتركهما حركة حماس والشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة فريسةً للإسرائيليين يمعنون فيهم قتلاً ودماراً وتهجيراً وإبادةً.
ما يجري في غزة لم ينحصر في حدود الأراضي المحتلّة. ما تقوم به إسرائيل لا يمكن حصره في حدود، طالما أنّ المحورين المتقابلين في البلاد العربية، والشرق الأوسط، تنضوي تحت لوائهما أحزاب وفصائل وحركات وتيارات، تنشط في كلّ بقاع العالم العربي.
“كلّ الخيارات واردة وكلّ الاحتمالات مفتوحة”، هذا ما قاله الأمين العام للحزب حسن نصر الله في خطابه الأخير، يوم الجمعة 3 تشرين الثاني الجاري، حول انخراط حزبه أكثر في الحرب. قال أيضاً إنّ حزبه انخرط في الحرب الدائرة في غزة، منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، أي في اليوم التالي لعملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها حركة حماس على غلاف غزّة.
حدث هذا على الرغم من أنّ نصر الله أكّد في خطابه الآنف الذكر أنّ العملية لم تقم بها حماس بالتنسيق مع أيّ من حلفائها أو أصدقائها، والحزب منهم، وأنّه عرف بها كما عرف بها العالم أجمع لحظة وقوعها.
التضامن العسكري من الحزب ومشايعيه من أحزاب وجماعات في لبنان وغيره مردّه إلى وحدة المصير والمحور. الواقع هذا مردّه إلى ما نادى به نصر الله في الفترة الأخيرة: “وحدة الساحات”. فما هي الدوافع الحقيقية لإشعال جبهة الجنوب نصرة لجبهة غزّة؟ وما خلفيّاته؟
للجغرافيا كلمتها: نكبة الشيعة
قراءة تاريخ الشيعة القديم والمعاصر تستحيل بعيداً عن أحداث فلسطين. بل لا يمكن قراءته إلا في ضوء ما كان يجري منذ الحملات الصليبية حتى قيام الكيان الإسرائيلي.
شاءت الجغرافيا وأحداث التاريخ أن يكون الشيعة الاثنا عشرية من بين الفرق الدينية المرابطة على تخوم بيت المقدس، والمبشّرة بالجنّة في آخر الزمان، على ما يذهب الرواة من مختلف الفرق والمذاهب الإسلامية.
ما يجري في غزّة اليوم لن تقف آثاره ونتائجه حين تتوقّف آلة الحرب الإسرائيلية. النتائج والآثار ستستمرّ طويلاً. ستطال مواقف كلّ العرب، فرادى ودولاً وأقلّيات وجماعات. ستبني مستقبلها في المقبل من السنوات، تماماً كما نعيش اليوم تحت سقوف أعمدة بنتها نكبة فلسطين قبل 75 عاماً
شاءت الحركة الصهيونية والدول الاستعمارية الكبرى، وفي مقدّمها بريطانيا، أن تعطي فلسطين، التي لا تملكها، لليهود. لكنّ المنطق شيء، ومجريات الأحداث ومشيئة الدول الكبرى شيء آخر.
إذا كانت نكبة الفلسطينيين قد وقعت عام 1948، فإنّ نكبة أهل الجنوب عموماً، والشيعة خصوصاً، قد وقعت قبل ذلك بكثير.
في الأعوام التي تلت اتفاقية سايكس-بيكو، وتحديداً بين عامي 1920 و1923، تمّ الترسيم النهائي للحدود الفاصلة بين الانتدابين الفرنسي في لبنان والبريطاني في فلسطين، وهو ما حال بين أهل الجنوب وفلسطين. هذا انعكس فقراً وتعاسةً اقتصادية عليهم. انسلخوا سلخاً عن بلاد لطالما كانت محطّ رحالهم ومقصد رحلاتهم ورزقهم. فاقم من ذلك التفاوت الكبير بين القيمة الفعلية للجنيه الإنكليزي والفرنك الفرنسي. هكذا في عام 1920، وجد أهل الجنوب أنفسهم مسلوخين عن عمقهم الاقتصادي والتاريخي في فلسطين.
استيقظوا في الثاني من أيلول عام 1920، مواطنين لبنانيين، في دولة لبنان الكبير، بعدما عاشوا دهراً يتجوّلون بين صفد وعكا ونابلس وحيفا ويافا والقدس. بعضهم أصبحوا من دون أراضٍ أو قرى يملكونها، ومنهم من باع، ومنهم من سلّم أمره لله.
المعمّرون من أهل الجنوب، خاصةً أهل البلدات والقرى الحدودية، لا يزالون إلى الآن يتحدّثون بلهجة فلسطينية لا تشوبها مفردة من المحكي اللبناني الجنوبي، والمتحدّثون هؤلاء مسيحيون وسنّة وشيعة.
المحطات التاريخية البارزة والمؤلمة في تاريخ الشيعة وزعمائهم، ترتبط بوالي عكا أحمد باشا الجزار وسابقيه ولاحقيه. وكذلك بوالي دمشق. ارتباطها هذا كان أكثر بكثير ممّا ترتبط بالمعنيين والشهابيين، أمراء لبنان في تلك الأزمنة.
كان الجنوب تابعاً إدارياً وسياسياً ساعةً لولاية عكا وساعةً لولاية صفد وساعةً لولاية بيروت وأخرى لولاية دمشق في زمن الأتراك، إلى أن صار ملحقاً بلبنان الكبير منذ عام 1920.
ثمّ وقعت النكبة
وقعت النكبة. نزح فلسطينيون كثر إلى الجنوب ومنه إلى كلّ الأراضي اللبنانية. معهم نزح جنوبيون كثر كانوا يعملون ويعيشون في فلسطين. كانت النكبة جنوبيةً، بقدر ما كانت فلسطينيةً وعربيةً وإنسانيةً. وكانت القرى الجنوبية الحدودية منذ الاستقلال اللبناني عام 1943، وحتى النكبة عام 1948، تتعامل بالليرة الفلسطينية التي كانت تعادل يومها 10 ليرات لبنانية.
لمّا نزح الفلسطينيون من الجليل الفلسطيني إلى الجليل اللبناني، سكنوا القرى الحدودية لتبقى بلادهم على مرمى أنظارهم، وكانت سكناهم هذه مصدر رزق للجنوبيين خصوصاً، واللبنانيين عموماً، لأنّهم أتوا بأموالهم وذهبهم.
إقرأ أيضاً: 3 فتيات شيعيّات.. مدرسة مسيحيّة.. وصاروخ “يهوديّ”
نزل النازحون المنكوبون من فلسطين في ضيافة أصدقائهم السابقين في الجنوب، الذين كانوا متعاطفين مع “إخوتهم” الفلسطينيين، لمتانة الروابط والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية التي تربط بعضهم بالبعض الآخر.
كانت الثورة الفلسطينية التي اندلعت عام 1936 واستمرّت حتى عام 1948، تُدار من القدس وبنت جبيل، وكان مبعوث الحاج أمين الحسيني، عبد القادر الحسيني، في بنت جبيل، ومنها ينطلق إلى دمشق.
هكذا كان حال القيادات السورية ومعظم الزعماء السوريين، يدخلون إلى فلسطين من مرجعيون فبنت جبيل والقرى الحدودية المجاورة لها، ليقودوا الثورة ويتسلّلوا من هناك إلى فلسطين.
بعد النكبة، ظلّت العمليات الفدائية من عام 48 حتى 54، تنطلق من الجنوب والقرى الحدودية، حتى وقعت عملية الرملاوي الشهيرة عام 1954، وأبعد قائد الجيش اللبناني يومها فؤاد شهاب، اللاجئين الفلسطينيين 30 كيلومتراً عن فلسطين.
في الحلقة الثانية غداً:
دمٌ على ليل فلسطين
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@