خامنئي اليساريّ وفوضى خلافته

مدة القراءة 9 د

يبدو أنّ خلافة المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي ستمرّ في معمودية صعبة من الفوضى والخلافات والانشقاقات داخل نظام الملالي، تماماً كما كان الحال حين وصل خامنئي نفسه على قطار من الخلافات والفوضى والدماء.

مناسبة هذا الحديث هو اعتلال صحّة المرشد (84 عاماً)، الذي يحمل تاريخاً من المشاكل الصحّية، وقلق نخب إيرانية بشأن لحظة رحيله وانعكاساتها على النظام.

مدير مشاريع قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في “معهد صحافة الحرب والسلام”، علي رضا إشراقي، يتوقّع أن موته سيتسبّب بـ”الكثير من الحيرة والفوضى”، وأن يكون خليفته “زئبقيّاً ومراوغاً مثله”.

في هذا المعنى تعيش إيران فوضى سياسية يحكمها انعدام الثقة وارتفاع مستويات العداوة بين قياداتها. لكن وفقاً للدستور، يجتمع أعضاء مجلس خبراء القيادة الـ88 ويختارون مرشّحين بعد وفاة المرشد، ثمّ يستبعدونهم واحداً تلو آخر، إلى أن يحظى أحد المرشّحين بالأغلبيّة.

في تقرير طويل كتبه إشراقي في مجلّة “فورين أفيرز”، يذكّر كيف أنّ “قلّة توقّعت في أواخر الثمانينيّات أن يخلف خامنئي سلفه المؤسّس الخميني. إذ كان يُعتبر متواضعاً في الدرجة العلمية وعلى المستوى الفقهي، ويفتقر إلى المؤهّلات الدستورية المطلوبة، بحسب شخصيّات دينية بارزة في البلاد، وغير قادر على إصدار أحكام شرعية. هي تهمة كبيرة في دولة دينية عقائدية. حتّى إنّ الخميني نفسه، في رسالة مفتوحة في كانون الثاني 1988، اعتبر أنّ آراء خامنئي كانت “تتعارض مع أقواله”، وأنّه “ليس صحيحاً فهمُه للعقيدة الدينية النقدية التي تبرّر وجود المرشد الأعلى”. والسبب أنّ خامنئي ينتمي إلى “اليمين السياسي للنظام”، الذي يعتقد أنّ “المرشد الأعلى ليس فوق القوانين الدينية التقليدية”.

يبدو أنّ خلافة المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي ستمرّ في معمودية صعبة من الفوضى والخلافات والانشقاقات داخل نظام الملالي، تماماً كما كان الحال حين وصل خامنئي نفسه على قطار من الخلافات والفوضى والدماء

خامنئي اليساريّ.. وتصاعد قوّته

خلال الثمانينيّات، كان خامنئي قويّاً، وتكمن قوّته في كثرة أصدقائه وفي أنّه انتخب رئيساً مرتين في عامَيْ 1981 و1985، على الرغم من أنّ المنصب كان “فخريّاً” تقريباً في وجود الخميني، وبلا سلطة حقيقية. وكان النظام تحت سيطرة اليسار. وهو فصيل صار اسمه “الإصلاحيين”. وعُرِف بسياسته الخارجية العدوانية، وبتطهير المعارضة في الداخل وخلق اقتصاد شديد المركزية. وقد حقّق فوزاً ساحقاً في انتخابات 1988، وحصل على أغلبية ساحقة في البرلمان. وبقي الزعيم الشابّ اليساري مير حسين موسوي رئيساً للوزراء.

هكذا سيطر اليساريون على الحكومة. وكانت المناصب القضائية الرفيعة المستوى، بما في ذلك رئاسة المحكمة العليا ومنصب المدّعي العامّ، في أيديهم. بل امتدّت قوّتهم إلى ما وراء المؤسّسات المدنية. وقبل ذلك بعام، في 1987، سلّم الخميني بشكل مفاجئ إدارة اللجان الثورية، التي كانت آنذاك القوة الأمنيّة المحلّية الأكثر رعباً في البلاد، إلى نشطاء يساريين. دعم غالبية أعضاء فيلق الحرس الثوري الإيراني اليسار، أو آية الله حسين علي منتظري، الذي تمّ تعيينه رسمياً خلفاً للخميني. كانت قيادة الحرس الثوري الإيراني نفسها منقسمة بين اليمين واليسار، وكان الخميني قد طلب محاكمة اثنين من جنرالاته اليمينيّين أمام محكمة عسكرية. كانت الدائرة المقرّبة من الخميني، بما في ذلك ابنه، تتمتّع بعلاقة أكثر دفئاً مع اليسار.

كيف تمكّن خامنئي من اعتلاء الرئاسة؟

هذا هو أحد أعظم الألغاز في الجمهورية الإسلامية، ولا سيّما أنّ محاضر مداولات مجلس الخبراء التي تلت ذلك ما تزال سرّيّة.

يروي إشراقي أنّه قبل شهرين فقط من وفاة الخميني، شنّ اليسار حملة ناجحة لإزالة منتظري المعيَّن رسمياً من منصب خليفة الخميني، وهو ما أوجد فراغاً دستورياً. عقد مجلس الخبراء جلسة مغلقة طارئة. طرح الأعضاء أسماء كثيرة من كبار القادة، وعجزوا عن الوصول إلى توافق لتقاسم السلطة. وراحوا يصوّتون ضدّ رجال الدين البارزين، بمن فيهم علي أكبر فيض المعروف بـ”علي مشكيني”.

في النهاية، وفقاً للروايات التاريخية، بدأ الأعضاء في اقتراح أسماء عشوائية، وكان من بينهم اسم علي خامنئي. حينها أعلن أكبر هاشمي رفسنجاني، رئيس البرلمان، دعمه. كان اليمين ما يزال هشّاً، وصوّت بعض أعضائه ضدّ خامنئي. لكنّه تمكّن من الحصول على بعض الدعم من أعضاء اليسار من أجل انتخابه. لكن ما زال مستحيلاً أن نعرف كيف أدار اليمين هذه المهمّة. مشكيني وصف لاحقاً هذه النتيجة “غير المتوقّعة” بأنّها “تدخّل إلهي عفويّ”.

خامنئي يصفّي اليسار.. وأصدقاءه

بحسب إشراقي، “قام مجلس خاصّ فوراً بعد اختيار خامنئي بمراجعة الدستور الإيراني لمنح المرشد الأعلى تفويضاً مطلقاً غير مسبوق في الحكم تمّ التصديق عليه بعد ذلك في استفتاء مثير للجدل. وعند وصوله إلى السلطة، سارع المرشد الأعلى الإيراني الجديد إلى القضاء على أعدائه. في السنوات الثلاث الأولى من قيادته، أطاح خامنئي بالمسؤولين اليساريين في جميع المناصب الرئيسية تقريباً. عيّن رئيساً جديداً للمحكمة. وأوقف وسجَن قادة الحرس الثوري الإيراني غير الملتزمين. نجح في إقصاء اليسار عن الانتخابات النيابية. بحلول نهاية عامه الثاني في الحكم، رسّخ آليّة فحص دقيقة كان على جميع المرشّحين الوطنيّين اجتيازها قبل أن يتمكّنوا من الترشّح لأيّ منصب. في غضون بضع سنوات، انتقل خامنئي من كونه لاعباً هامشيّاً إلى كونه رئيساً لا لبس فيه لإيران”.

تعيش إيران فوضى سياسية يحكمها انعدام الثقة وارتفاع مستويات العداوة بين قياداتها. لكن وفقاً للدستور، يجتمع أعضاء مجلس خبراء القيادة الـ88 ويختارون مرشّحين بعد وفاة المرشد، ثمّ يستبعدونهم واحداً تلو آخر، إلى أن يحظى أحد المرشّحين بالأغلبيّة

اختيار فوضويّ لخليفة خامنئي

الفوضى في السياسة الإيرانية سبقت خامنئي. لكنّه لم يسعَ إلى ترسيخ الاستقرار، بل أنشأ نوعاً من الحكم الشخصي، وجعل السلطة محفوفة بالمخاطر وأدّى إلى اضطرابات مستمرّة، وحوّل السلطة إلى “إقطاعيّات مؤقّتة” يمكنها استغلال الموارد العامّة وتحقيق أهدافها الفردية.

أحدث مثال على ذلك هو صادق أمولي لاريجاني، الرئيس السابق للمحكمة العليا الإيرانية، والعضو السابق في مجلس صيانة الدستور (الذي يمكنه الاعتراض على التشريعات أو تعديلها)، والرئيس الحالي لمجلس تشخيص مصلحة النظام (الذي يحلّ النزاعات بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور). فعلى الرغم من جميع مناصبه المؤسّسية، التي افترض العديد من المحلّلين أنّها تشير إلى ارتفاع حظوظه في خلافة خامنئي، لم يعد لاريجاني يتمتّع بسلطة ذات مغزى. حُكم على أحد معارفه بالسجن 31 عاماً بتهمة الفساد، فيما أحد الموظّفين الرئيسيّين السابقين لديه، المدّعي العامّ السيّئ السمعة والثوري عباس جعفري، هو الآن سائق سيّارة أجرة في شوارع طهران.

من المرجّح أن يميّز هذا التقلّب عملية اختيار خليفة خامنئي. ستكون العملية فوضوية إلى حدّ ما، مع العديد من المفسدين وقلّة من الوسطاء المخلصين. المرشّحون الذين يبدو أنّهم مفضّلون الآن، بمن فيهم رئيسي ونجل المرشد الأعلى مجتبى خامنئي، قد يفقدون أفضليّتهم بسرعة.

ستسعى النخب التي رفضها النظام السياسي الحالي إلى الاستفادة من أكبر فراغ في السلطة في إيران منذ عام 1989. إنّ كون إيران أرضاً خصبة للاضطرابات الشعبية يزيد من حالة عدم اليقين. في الواقع، الشيء الوحيد الواضح هو أنّ النخبة الإيرانية المعاصرة ليست مستعدّة لهذه اللحظة. وهي نادراً ما تكون مستعدّة لأيّ اضطراب، كما ظهر بوضوح من الردّ على الاحتجاجات الذي كان بطيئاً في البدء ثمّ توقّف ثمّ أصبح عنيفاً جدّاً. على العكس من ذلك، تكتفي النخب الإيرانية بالارتجال والتشويش في مواجهة الأزمة.

لهذا لن تنتهي صراعاتها عندما تنتهي الخلافة. ومن المرجّح أن يكون الزعيم الإيراني المقبل زئبقيّاً مراوغاً مثل سابقه.

من سيدير فوضى خلافته؟

60% من مجلس خبراء القيادة تجاوزوا الـ70 من العمر، وهم ذوو نفوذ سياسي كبير، إذ يمثّلون كبار السياسيين وصانعي القرار الرئيسيين في النظام وقادته الأمنيين والعسكريين والمؤسّسات التي يسيطرون عليها. وهؤلاء القيادات منقسمون حالياً، وقد يواجهون صعوبة في التوصّل إلى توافق، وهم في صراع شبه دائم، ولا تقوم علاقاتهم على قواعد أو مؤسّسات قوية، ولا يوجد بين الأعضاء وسطاء مؤثّرون لإدارة خلافاتهم.

نظراً لانعدام الثقة والعداوات المختلفة، يستبعد إشراقي أن يكون الصراع على خلافة خامنئي منافسة منظّمة بين الفصيلين الرئيسيَّين في النظام، أي بين المعتدلين والمحافظين المتشدّدين. بل يتوقّع أن لا تكون مسألة الخلافة منظّمة على الإطلاق، وأن تكون المعركة بدلاً من ذلك شبيهة بتلك التي أوصلت خامنئي إلى السلطة في عام 1989: منافسة مريرة قائمة على الصفقات وتحقيق أهداف معيّنة. وقد تظهر تحالفات مفاجئة تتفكّك بالسرعة نفسها التي نشأت بها، ويتمّ استخدام المنافسة لتصفية الحسابات، والطعن في الظهر والكشف عن أسرار قذرة. سيتمّ التلاعب بالقواعد، إن كانت موجودة. ويمكن أن يكون الفائز النهائي مفاجأة للكثيرين، ومن بينهم أفضل المراقبين اطّلاعاً.

إقرأ أيضاً: السعوديّة “النوويّة”: إلى الصين دُر

الشيء الوحيد المؤكّد، وفقاً لإشراقي، هو أنّ موت خامنئي سوف يتبعه الكثير من الحيرة والفوضى لأنّ القوّة غير الرسمية للنخب كانت دائماً أكثر أهميّة من سلطة المنظّمات البيروقراطية الرسمية، وهذا ما جعل هذه النزاعات بين الأشخاص أكثر أهميّة من النزاعات المؤسّسية. لكنّ هذه المعارك الشخصية نادراً ما ترتبط بالانقسامات السياسية أو الأسباب الأيديولوجيّة، بل تحكمها المصالح الشخصية والماليّة. وتعني الطبيعة الأنانيّة لهذه الخلافات أنّ النخب سيقاتل بعضها بعضاً حتى لو كلّف ذلك فقدان أيّ فرص لفصائلها. سوف يتقاتلون حتى لو أدّى ذلك إلى تقويض قدرتهم على الحكم.

* علي رضا إشراقي: مدير البرامج في معهد صحافة الحرب والسلام وباحث زائر في مركز الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية بجامعة نورث كارولاينا في تشابل هيل.

لقراءة النص الأصلي اضغط هنا

مواضيع ذات صلة

فريدريك هوف: خطوات ترسم مستقبل سوريا

حّدد الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق إلى سوريا السفير فريدريك هوف عدّة خطوات تستطيع تركيا، بمساعدة واشنطن، إقناع رئيس هيئة تحرير الشام، أبي محمد الجولاني، باتّخاذها…

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…