“الشحّ” الذي اشتكى منه سياسيون لبنانيون والمتعلّق بالفقرة الصادرة عن إعلان جدّة ومقرّراتها كان عقاباً واضحاً للطبقة السياسية. السعودية لم تعاقب لبنان. الجامعة العربية كلّها عاقبته. والمملكة بقيت سنداً له على الدوام حتى في لحظات الانقلاب عليها التي قادها الحزب. ما قالته مقرّرات القمّة، وخصوصاً في البند اللبناني، كان واضحاً: طبقة سياسية على مثال تلك المُسيطرة على لبنان لا تستحقّ المخاطبة.
على سبيل التأكيد، قال بعض من حضروا القمّة واجتماعاتها وكواليسها، إنّ بند لبنان “كاد يسقط” قبل أن يستدركه البعض. وجاء النصّ هزيلاً و”تعليميّاً”:
“نعرب عن تضامننا مع لبنان ونحثّ كافّة الأطراف اللبنانية للتحاور لانتخاب رئيس للجمهورية يرضي طموحات اللبنانيين وانتظام عمل المؤسّسات الدستورية وإقرار الإصلاحات المطلوبة لإخراج لبنان من أزمته”.
“الشحّ” الذي اشتكى منه سياسيون لبنانيون والمتعلّق بالفقرة الصادرة عن إعلان جدّة ومقرّراتها كان عقاباً واضحاً للطبقة السياسية. السعودية لم تعاقب لبنان. الجامعة العربية كلّها عاقبته
ميراث بلد لم يصبح دولة
الوجهة التي حدّدتها “قمّة جدّة” مسحوبة إلى مداها الأبعد في السياسة، إنّما تعلن أنّ لبنان ما عاد أولوية كما كان سابقاً. البند “النصيحة” يرقى إلى معاكسة صريحة لكلّ ما رمز إليه لبنان. وكم تتبدّى هذه الوجهة مؤلمة في عالم عربي يحاول النهوض الجمعي، فيما جمهورية الأرز تعيش أسوأ نهاياتها، حتى أسوأ ممّا كان سيتخيّله مؤسّس المذهب التشاؤمي الفيلسوف أنتيستنيس.
لم يكن ما قاله “إعلان جدّة” افتئاتاً على لبنان وحضوره. فالفاصل الزمني بين تاريخ تأسيس الكيان ويومنا هذا، هو تاريخ من تحلّل البلد الذي لم يصبح دولة. على معنى أوضح، هو تاريخ من القضايا العريضة “ثوريّاً” و”سياسيّاً”، وكلّها لم تحمل لهذه الجغرافيا السياسية مشروع دولة. لهذا نصحه البيان بـ”انتخاب رئيس للجمهورية يرضي طموحات اللبنانيين” وبـ”انتظام عمل المؤسّسات الدستورية”. والأنكى: “إقرار الإصلاحات المطلوبة لإخراج لبنان من أزمته”، أي أنّ المجتمعين يعلنون أنّ حكّام لبنان فاسدون، وعليهم إقرار إصلاحات. ويعرفون أنّ الطبقة السياسية تخطّط لرئيس “لا يرضي طموحات” الشعب، وأنّ الوفد الذي كان برئاسة نجيب ميقاتي يأتي بحكم يفتقر إلى “انتظام عمل المؤسّسات الدستورية”.
الاستثناء على القاعدة في هذا السياق شكّله الشهيد رفيق الحريري. لكنّ الأخير يتحمّل وورثته السياسيين المسؤولية بسبب من قبولهم أو مراهنتهم على أنّ الفصل بين السياسة والاقتصاد سيعيد إلحاق الأولى بالأخيرة. كلّفت هذه القناعة البلد دماءً كثيرة وغزيرة.
مسؤوليّة النهاية
إذا جاز تعيين المسؤول الأوّل عن هذه النهاية التي آل إليها لبنان، فلا شكّ أنّ المكوّنات اللبنانية التي ما استطاعت أن تكون مواطنة في جمهورية ستكون هي المسؤولة. دائماً وُجد فيها من يحمل عن كاهل الخارج على حساب قدرة البلد على التحمّل. ودائماً كان هناك من يستسهل الاستقواء بالخارج للمحافظة على “امتيازات” مقابل آخر استنجد بالخارج لينجز تغييراً سياسياً عبر إقامة غيتوات.
ما حصل في “إعلان جدّة” هو نتيجة طبيعية لسياسات متعاقبة حوّلت الكيان، وقد كان مشروعاً محتملاً لدولة، إلى مجرّد ساحة تؤدّي وظائف استراتيجية. والأحلام الكبيرة التي انطلقت من ليل بيروت صار يقابلها نهاراً كوابيس في الدول العربية حول كيفية التعامل مع العالم الجديد. والنصيحة في البيان التي حثّت على انتخاب رئيس وإعمال المؤسّسات الدستورية وإقرار الإصلاحات المطلوبة، لا تعدو كونها كلاماً قد قالته مراراً وتكراراً أطر دولية ونقدية عالمية.
لم يستفد لبنان يوماً من حيازته شيئاً من الديمقراطية لدفع سقَطات السياسات التي تبنّاها، أو “النظريات الثورية” التي كانت ترى في شطآن البلد منطلقاً لحركات تغيير
ما يعرفه ويدركه اللبنانيون أنّ اسم وطنهم قرين مفردة “الأزمة” التي صارت مستعصية على الحلّ. سوريا عادت. الأزمة الليبية مطروحة للحوار لإيجاد مخرجات الحلّ. السودان حلّ ضيفاً على المملكة منذ زمن لإعادة ترميم وحدته. العراق أعاد قبل القمّة تعريف نفسه ودوره. وحده لبنان ذهب برئيس حكومة لم يُحسن غير “التراضي”، من دون أن يقدّم خارطة طريق غير “رفضه” و”مراوغته” لكلّ النصائح الدولية. بسبب من فرادته النادرة لم يتطرّق ميقاتي إلى القضية الفلسطينية بكلمة واحدة، كأنّ الاشتباكات القائمة في فلسطين المحتلّة مع القوات الإسرائيلية هي على أفضلية المرور.
مع أو ضدّ وليّ العهد السعوديّ
في وسع أيٍّ منّا أن يُبدي إعجاباً منقطع النظير بوليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وحتى مبايعته على جري عادات لبنانية. ويستطيع آخرون أن يعلنوا معاداته، وخصوصاً بسبب إهماله لبنان. لكنّ هذا لا يلغي بحالٍ من الأحوال أنّ اللبنانيين ما مارسوا السياسات كتفاهمات وتسويات بقدر ما تبنّوها كـ”حرب وجود”.
لم يستفد لبنان يوماً من حيازته شيئاً من الديمقراطية لدفع سقَطات السياسات التي تبنّاها، أو “النظريات الثورية” التي كانت ترى في شطآن البلد منطلقاً لحركات تغيير. حتى على أصعدة التفكير والتدبير لم تعنِ له الديمقراطية شيئاً، علماً أنّ فضيلتها المثلى سياسياً هي تحويل التوتّرات إلى سياسة، على العكس من كلّ الدول المحيطة بنا التي لم تفلح إلا في تحويل السياسة والتوتّرات إلى حروب.
حتّى اليوم، ومع كلّ ما بلغناه من تردٍّ سياسي واقتصادي وثقافي، هناك واقع يفيد أن لا شيء من لغة الماضي قد اختفى. الدعوات والأمنيات لرئيس الجمهورية العتيد كلّها تنشد مواضي غابرة: بعضها عائلي، وغيرها يرتكز على نماذج لم تفعل غير إدارة الأزمات.
حتى الحبر الذي سال في إعلان جدّة كان فائضاً على لبنان. إذ لم يعد في البلد لغات سياسية تفصل المقدّس عن العاديّ. الجميع يغرف من منهل العصبيّات الأهلية. ومثل هذا الانتكاس لا يدفع أحدٌ لبنان إليه، إنّما يُسعى إليه بجهود حثيثة من السياسيين، وبسكوت عميم من اللبنانيين.
عطاءات يجب تذكّرها
ما هو قديم لم يعد صالحاً للتعويل عليه الآن. لكنّ التذكير به يدعونا إلى تحمّل مسؤوليّتنا بأنفسنا. والنهاية البائسة كالتي نعيشها لم تصنعها “الإدارات السوداء”. دعك من المؤامرة. ما حصل إنّما كان بفعل وقائع صلبة من نتاج الحكم وإدارته.
في مطلع التسعينيّات أعطت السعوديّةُ لبنانَ بدعم دولي بلداً كان احتمالاً جدّيّاً أن يصبح دولة ذات موارد وإمكانات. كان كلّ المطلوب هو الحفاظ على صداقتنا مع العالم مع تأكيد وجوب تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي. وكان المطلوب ألّا يكون البلد تابعاً، بالتوازي مع علاقات معقولة مع جميع دول العالم.
هذا لم يحصل على الإطلاق. فحيال العالم ساد التنصّل والتهرّب من كلّ الالتزامات مع مراكمة السلاح وتحويل كلّ لبنان إلى مخزن للأسلحة والصواريخ. وحيال العرب سادت عند الحزب والإدارة السورية الرغبة الجامحة بإقصاء بقيّة اللبنانيين وأفكارهم وأحلامهم رويداً رويداً عن لبنان، حكماً واستشرافاً ومستقبلاً.
استكمالاً للمآثر اللبنانية صنعنا حروباً بعد تحرير للأرض وقّعنا على “خطّه الأزرق”. تابعنا المآثر بحرب 2006، ثمّ كان الصدع الأهلي في 2008، وتبعته معاداة العرب والعالم عبر القطع مع الشرعيّات الإقليمية والأممية منذ حرب سوريا في 2011 إلى يومنا هذا.
الأسوأ أنّ لبنان صار ميداناً لتدريب مقاتلين ومفوّهين من غزّة إلى اليمن مروراً بسوريا والعراق.
إقرأ أيضاً: التمايزات في جدّة لا تلغي مسار وقف الصراعات
حيال واقع كهذا، تنعدم الحاجة إلى براهين على ضرورة استبعاد كلّ وعي تآمريّ يصدر عن كاتبٍ من هنا، أو رجل دين من هناك. فليس من داعٍ لادّعاء ما من شيء يدلّ على صحّته.
الحقيقة أنّنا نحن صنعنا هذا الصدأ والوحل الذي نحن فيه. وها هم العرب في قمّة جدّة يعايروننا بأنّ دربنا قصيرة ولا يلزمها سوى جملة من سطرين: “التحاور لانتخاب رئيس للجمهورية يرضي طموحات اللبنانيين وانتظام عمل المؤسّسات الدستورية وإقرار الإصلاحات المطلوبة لإخراج لبنان من أزمته”.