باخموت-هيروشيما: الحلّ الصينيّ بنكهة فرنسية!

مدة القراءة 6 د

لم يكن خبراً مفاجئاً بالنسبة للعواصم الغربية إعلان قوات “فاغنر” الروسية سقوط منطقة باخموت. ولم يظهر أنّ تطوّراً من هذا القبيل قد أثّر على اجتماعات قمّة الدول السبع الكبرى في هيروشيما في اليابان. بدا الأمر، على الرغم من سرديّات المعركة الأسطورية، تفصيلاً في مسار الصراع الدائر بين المنظومة الغربية وروسيا بزعامة فلاديمير بوتين.

على الرغم من ضراوة المعارك إلى درجة وصف الحدث بـ”المفرمة” في باخموت، وعلى الرغم من إصرار الطرف الأوكراني خلال الأشهر الأخيرة على مواصلة القتال للدفاع عن منطقة أثارت أسئلة بشأن أهميّتها واستحقاقها لهذا الكمّ من الخسائر البشرية الموجعة لدى الطرفين، فإنّ الدول الكبرى اعتبرت الحدث معركة من معارك حرب طويلة فيها مراحل كرّ ومراحل فرّ.

بدا بيان القمّة صلباً موحّداً في الموقف من روسيا، منسجماً تسوويّاً في الموقف من الصين، وكأنّ ماكرونيّة ما قد تسرّبت إلى حروف نصّ هيروشيما

كانت الصحف الأميركية قد نشرت مقالات نقلت فيها معلومات عن نصائح أميركية وُجّهت إلى كييف منذ أشهر بالانسحاب من باخموت وتوفير جهد الاستماتة بالدفاع عنها لصالح “حرب الربيع” الموعودة التي لطالما هوّلت بها كييف وعوّلت عليها. ومع ذلك فإنّ كييف لم تخضع لنصائح عسكر واشنطن الذين لطالما أخطأوا في تقويم قوة الجيش الأوكراني وما يملكه من كفاءات في بداية المراحل الأولى للغزو الروسي الذي بدأ في 24 شباط 2022.

إصرار على “ردّ” الحرب الروسيّة

من يقرأ البيان الختامي لمجموعة G7 في 20 أيار الجاري يستنتج إرادة جماعية موحّدة على ردّ الحرب الروسية والدعم المطلق لكييف وجيشها ورئيسها. حضر فولوديمير زيلينسكي جانباً من أعمال القمّة في هيروشيما آتياً من جدّة حيث استمعت إليه القمّة العربية هناك. وبدا أنّ أوروبا والولايات المتحدة موحّدتان في الموقف وعازمتان على الذهاب بعيداً لتقويض “الخطر الروسي” على القارّة العجوز خاصة، والمنظومة الغربية عامة، وأنّ التقارير التي تتحدّث عن تصدّع ما في مقاربة هذه الحرب بين الشركاء الغربيين ليست دقيقة ولا تندرج إلا في سياق التعدّد والتنوّع داخل الحلف الواحد. 

اللافت جدّاً هو فتوى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنّ “السلام لا يمكن أن يكون بتحويل الوضع إلى صراع مجمّد”، وهو ما فُهم بأنّه رفض فرنسي-غربي لتجميد الصراع والقبول بالأمر الواقع الذي سبّبته حرب روسيا في أوكرانيا.

تَعِدُ المواقف المتدرّجة بتصعيد قريب للحرب. وما كان مستحيلاً ومحرّماً في مسائل تسليح أوكرانيا في مراحل الحرب الأولى بات من العاديّات التي ستليها عاديّات أخرى. تطوَّر مستوى الأسلحة المقدّمة إلى كييف، وإن شهدت كلّ مرحلة نقاشاً وسجالاً صعباً داخل أوروبا وبين الأخيرة والولايات المتحدة. تدفّقت الدبّابات الثقيلة الاستراتيجية والمدافع البعيدة المدى والمنظومات الصاروخية الكبرى والمسيّرات الحديثة، وبدا في أعمال هيروشيما وما صرّح به الرئيس الأميركي جو بايدن أنّ واشنطن رفعت الفيتو ولم تعد تمانع قيام دول حليفة بتزويد أوكرانيا بالطائرات المقاتلة.

لم يكن خبراً مفاجئاً بالنسبة للعواصم الغربية إعلان قوات “فاغنر” الروسية سقوط منطقة باخموت. ولم يظهر أنّ تطوّراً من هذا القبيل قد أثّر على اجتماعات قمّة الدول السبع الكبرى في هيروشيما في اليابان

الغرب يواجه الصين.. في أوكرانيا

فُهم أنّ واشنطن لن تذهب إلى تزويد أوكرانيا بطائرات F-16 من ترسانتها الخاصة، لكنّها ستشجّع أيّ دولة حليفة على فعل ذلك بما يسهّل تزويد هذه الدول بطائرات F-35 الأميركية الحديثة. وبدا أنّ تهديدات روسيا بنقل المعركة إلى مستويات خطيرة إذا ما باتت كييف تمتلك أذرعاً جوّية متقدّمة، لم تعد تقلق الغربيين الذين باتوا يعتبرون أنّ هذه الحرب ليست خياراً للنقاش، بل هي جزء من الأمن الاستراتيجي العامّ وفيصل محدِّد لطبيعة العلاقة المقبلة مع الصين.

قبل سنوات، في عهد الرئيس الأميركي الجمهوري السابق دونالد ترامب، كان معقّداً أمرُ جرّ الحلفاء إلى اتخاذ موقف من الصين يقترب من موقف الولايات المتحدة إذا لم يتطابق معه. غير أنّ بايدن تمكّن من الوفاء بوعوده الانتخابية برأب ما تصدّع وتضرّر في علاقات بلاده مع “الأطلسي” و”أوروبا” ومجموعة السبع الكبار في عهد سلفه. صحيح أنّ ترامب تمكّن عام 2020 من الضغط على صديقه رئيس الوزراء البريطاني المحافظ الأسبق بوريس جونسون لإلغاء عقد عملاق مع شركة هواوي الصينية لنشر شبكة الجيل الخامس “G5” في المملكة المتحدة، غير أنّ خطاب أوروبا بقي حيال الصين مرناً بعيداً عن سياق المخالب الأميركية التي شهرتها واشنطن بوجه بكين منذ عهد الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما.

لكنّ تطوّراً في مواقف المجموعات الغربية سُجّل في عهد بايدن. دخلت على بيانات “الناتو” والاتحاد الأوروبي تحذيرات من “التحدّي الاستراتيجي” الذي تمثّله الصين، فيما وسّع الحلف الأطلسي من مسرح أنشطته وخططه واستراتيجيّاته واستعداداته لتشمل منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ومع ذلك فإنّ قراءة بيان قمّة الـ G7 قبل أيام تقود إلى استنتاج معادلة كان من الواضح أنّها عصارة نقاش بين رؤى مختلفة مفادها استخدام لغة تراوح بين التنبيه والتحذير من جهة، والتقدير والتفهّم من جهة أخرى، مع رفض حازم للعسكرة التي تفرط الصين في استخدامها في بحر الصين الجنوبي من خلال التلويح بالحلّ العسكري المقبل لأزمة تايوان.

الدول السبع.. يناشدون الصين

غير أنّ الزعماء السبع باتوا، حتى في سطور بيانهم، مستسلمين لفكرة أن لا حلّ في أوكرانيا من دون الصين، وتكاد روح البيان الختامي “تناشد” بكين استخدام حلفها مع موسكو للضغط على روسيا وزعيمها لوقف تلك الحرب. وما بين كلمات البيان قد تتسرّب تمنّيات ترى في موقف صيني يذهب بهذا الاتجاه بوّابة تفاهم أشمل وعلى مستويات مختلفة مع الغرب، ولا سيّما أنّ البيان يعترف للصين بمكانتها الثانية في الاقتصاد العالمي والحاجة إلى دورها في تسييل سلاسل التوريد والدفع بالنموّ الدولي الشامل. لكنّهم، حسب البيان، “سيواجهون الممارسات الخبيثة، مثل نقل التكنولوجيا غير المشروع أو الكشف عن البيانات”، مع تجنّب “تقييد التجارة والاستثمار بشكل غير ملائم”.

قد يكون واقعاً أنّ باخموت سقطت على الرغم من أنّ كييف تتحدّث عن مقاومة مستمرّة. قال زيلينسكي إنّه “لم يبقَ شيء هناك” قبل أن يعترف بسقوطها “لكن بخسائر غير مسبوقة”. لكنّ الأمر لا يعدو بالنسبة لأوكرانيا والغرب أكثر من صفحة أو محطّة ستليها صفحات ومحطات من هذا الصراع المتعدّد الأبعاد والطبقات.

إقرأ أيضاً: بن سلمان يقود قطار 2030 العربيّ: هل يلتحق لبنان؟

في هيروشيما طوى أيضاً زعماء الدول السبع الكبرى “نزوة” الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إثر زيارته للصين في نيسان الماضي ودعوته أوروبا إلى “التمرّد” على استراتيجية واشنطن حيال بكين. أكّدوا أنّهم لا يريدون الإضرار بالصين ويسعون إلى “علاقات بنّاءة ومستقرّة” معها، مدركين “أهميّة التعامل بصراحة مع الصين والتعبير عن مخاوفنا مباشرة”.

بدا بيان القمّة صلباً موحّداً في الموقف من روسيا، منسجماً تسوويّاً في الموقف من الصين، وكأنّ ماكرونيّة ما قد تسرّبت إلى حروف نصّ هيروشيما.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…