الترجمة غير السرّيّة للنصّ غير الصينيّ

مدة القراءة 7 د

ركَن رستم غزالة سيّارته عند جسر مفترق بلدة الديماس، ومكث مع مرافقه ينتظر عودة ضيفه اللبناني من لقائه الرئاسي في دمشق.
كان المساء قد ألقى ظلامه، ولم يخفّف من قيظ آب في تلك المنطقة الجرداء. بعد قليل وصلت سيّارة اللوحة اللبنانية. تبادلا المرافقين السائقين. وانطلقا سريعاً. صار الرجلان وحدهما. سأل خليفةُ أبي يعرب المسؤولَ اللبنانيّ بسرعة: الخلاصة؟ فروى الزائر بالتفصيل المملّ كيف حاول طوال نصف ساعة ثني الأسد عن قراره التمديد للحّود. بلغ به الأمر، عند استنفاد الحيلة والحجّة وبلاغته المعهودة، أن قال له: “فليكن سليمان فرنجية”، فأجابه الرئيس السوري: “ليس الآن وقت التجربة”.
هذه الواقعة التي روى إيلي الفرزلي مراراً كيف حصلت معه، ووثّقها الزميل سامي كليب في كتابه، ثمّ أوردها الفرزلي نفسه في مذكّراته، يتذكّرها اليوم أحد العاملين على الترجمة العربية، واللبنانية خصوصاً، للنصّ المخفيّ ضمن الاتّفاق الصيني.

حسابات الرياض
 ينطلق “المترجم المعتمَد والمحلّف” من تحديد الوقائع الثابتة:
-أوّلاً، نعم لقد حصل اتفاق بين طهران والرياض بوساطة صينية.
-ثانياً، وهذا المعطى الأهمّ لأهل بيروت، لم يتمّ هذا الاتفاق بسبب لبنان، ولا لأجل اللبنانيين، ولا هم محوره، وإن كانوا مقتنعين بأنّهم محور الكون، ولا جدوى من أيّ علاج بالصدمات أو بالمآسي لشفائهم من هذا الوهم.
-ثالثاً، هناك حسابات متشعّبة ومعقّدة جدّاً خلف اتفاق بكين:

بين حسابات الرياض وطهران كانت هناك معادلة الأسد الصيني. ذلك المارد المأسور منذ ألفيّتَين على الأقلّ، خلف سوره العظيم. يتحفّز للقفز فوقه قبل أن تستكمل واشنطن سورها الجديد من حوله بحراً

تنطلق حسابات الرياض مثلاً من عقيدة شاملة باتت أقرب إلى ما يوصف بأحاديّة الدافع الاقتصادي. هناك دولة شابّة أنجزت خلال أعوام قليلة إعادة تأسيس هويّاتيّة وطنية، حتى لامست بحث إعادة قراءة التاريخ وكتابته. لكنّ الأهمّ أنّها تنظر إلى الواقع والمستقبل والمحيط بمنظار الاقتصاد. وهو أمر مفهوم. فهذه دولة، عائد شركة واحدة فيها أكثر من 300 مليار دولار سنوياً، مع ناتج تخطّى تريليوناً، أي ثلاثة أضعاف الناتج الإيراني. بينما رعايا إيران يلامسون أضعاف السعوديين ثلاث مرّات.
أمّا المقارنة مع سوريا الذبيحة اليوم فكارثية: الناتج السعودي السنوي يوازي الناتج السوري الحالي لمئة سنة!
من هنا تُفهم خلفيّة السعودية في مقاربة منطقتها وعالمها واتّفاقها مع إيران: لدينا القوّة الاقتصادية الكبرى. ما نحتاج إليه بعد هو الاستقرار. فهو المدخل الحتميّ لترجمة قوّتنا هذه ازدهاراً ونموّاً ورفاهاً، وبالتالي حضوراً ودوراً.

حسابات طهران
حسابات طهران مختلفة طبعاً. ليست مسكونة بالنموّ ولا قطعاً برفاه ناسها. فهي اعتادت القلّة والشظف. لا بل صنعت منه عقيدة محفّزة. شيء من كربلائيّة دائمة ضرورية لشرعية النظام.
في مقابل الدافع الاقتصادي سعوديّاً، في إيران دافعان: الجغرافيا السياسية والهويّات الجماعاتيّة. وهو أمر منبثق من واقع البلد الطوبوغرافي والتاريخي. ليست إيران المعاصرة غير تلك الهضبة الوعرة العالقة بين سلسلتَيْ جبال زاغروس وإلبُرز. تكاد تختنق بينهما. تماماً كما تكاد تختنق طهران بيئيّاً من تلوّث وقوعها بين ثلاث جهات مسدودة جبليّاً.
ليس لتلك الدولة المهجوسة بغزوات كورش وداريوس، إلا ذلك الانفتاح الجغرافي الوحيد لأرضها صوب بلاد الرافدين. انفتاح لا تمهيد له إلا بالهويّة المذهبية. هويّة ظلّت ممنوعة لقرون قبل أن يفتح لها الباب جورج بوش الابن بتزاوجٍ من سذاجة المحافظين الجدد الأيديولوجيّة مع الجشع النفطي للرئيس الفعليّ ديك تشيني.
لذلك تعتبر إيران أنّ أيّ اتفاق يكرّس لها هذين المعطيَين: انفتاح الجغرافيا وقبول هويّات “جماعاتها”، يكون فرصة لا تُفوّت لبناء موقعها ودورها في الإقليم.
وبين حسابات الرياض وطهران كانت هناك معادلة الأسد الصيني. ذلك المارد المأسور منذ ألفيّتَين على الأقلّ، خلف سوره العظيم. يتحفّز للقفز فوقه قبل أن تستكمل واشنطن سورها الجديد من حوله بحراً.
هكذا صار اتفاق بكين واقعاً بحسابات متقاطعة ورهانات متقابلة وانتظارٍ لحُكم الأحداث والتاريخ.
انطلاقاً ممّا سبق، نصَّ الاتفاق، في بند مضمَر طبعاً، على تفكيك بؤر التفجّر أو التوتّر بين الطرفين، في سياق الإجراءات الأوّلية لإعادة الثقة.
من علاقات ثنائية إلى يمنٍ فعراق فسوريا وصولاً إلى لبنان.

ماذا عن لبنان؟
هنا، لا تفجُّر عسكريّاً، بل توتّر سياسي.
وتفكيك هذا التوتّر معادلته بسيطة: أن يتّخذ الطرفان موقف النأي بالنفس عن صراعات اللبنانيين.
شيء ما يشبه الموقف اللبناني التاريخي من فرضيّة الانقسامات العربية، لكن معكوساً: فالسعودية وإيران مع اللبنانيين حيث يتوافقون، وينأيان بنفسَيهما عنهم، حيث يختلفون!  
جاء عبد اللهيان إلى بيروت ونقل تلك الرسالة باللغة الفارسية لِمن يفهمها جيّداً: المطلوب توافق ولا استفزاز.
وجال بخاري ونقل الرسالة نفسها بالعربية: لا فيتوات ولا فرض.
أصدقاء الطرفين سمعوا منهما، لكن على مضض. انزعج كلّ منهم من مرجعيّته أو حليفه. فبدأت موجة مزايدات وحفلة عنتريّات من حُماة رؤوس الطرفين.
لكن في النهاية، ما يقتضيه الاتفاق لبنانياً هو نوع من العودة إلى معادلة 1958. لكن ليست أميركية ناصرية لبنانية كما كانت يومذاك. بل سعودية إيرانية لبنانية هذه المرّة، باحتضان عربي ومباركة دولية. وهو ما ترجمته رئاسياً: انتخبوا رئيساً وفق معادلة الاتفاق الصيني المتوازن. فالقرار والخيار لكم. ولا تنتظروا منّا تدخّلاً ولا تعليمات.
لكن إذا جئتم برئيس محسوب على طهران، فلا تنتظروا دعم الرياض ولا حلفائها. والإيرانيون متفهّمون لذلك.
وإذا جئتم برئيس محسوب على الرياض، فلا تنتظروا تسهيلات ميدانية في الأمن وملحقاته من طهران وجماعاتها. والسعوديون يدركون ذلك أيضاً.
هنا علِق اللبنانيون من الطرفين في أسْر سقوفهم المرتفعة. كيف النزول عنها؟
يقول المترجم إنّ المطروح صيغتان لنزول أشاوس اللبنانيين عن أشجار حروبهم البائدة:
-صيغة أولى للإخراج، عبر لقاءات القمّة العربية اليوم، وما بعدها، بحيث يتمّ إنضاج التسوية، ويبلغ كلُّ زعيم عربي “أصدقاءه” في بيروت أن “خلصنا ومشينا”. تماماً كما حصل مع عون سنة 2008 أو مع فرنجية سنة 2016.
-صيغة ثانية أكثر لبننة وأقلّ إحراجاً للبلديّين وتوريطاً للخارجيّين. تقول بالدعوة إلى جلسة انتخابية، يكون الغرض الوحيد منها، هو تأكيد استحالة كلّ الخيارات المطروحة. ليعتذر بعدها من يجب أن يعتذر، ويعتبر من عليه أن يعتبر.
وقيل ربّما تتمّ الخطوتان معاً.
فيما المواكبة الغربية مستمرّة: فرنسا تعاني من تعنّت “خليّتها النيجيرية”، مع تصدّع وصداع. ومقال “لوموند” كان قاسياً جدّاً على ماكرون، المتّهم بمسايرة من وصفته الصحيفة العريقة “بالديكتاتور السوري”.

إقرأ أيضاً: شهران على بكين: إيران غير معنيّة؟

بينما واشنطن أنجزت إقرار لجنة الشؤون الخارجية في مجلس نوّابها لقانون “معارضة التطبيع مع الأسد”، بسرعة قياسية وإجماع، وفتحت بابه إلى أوّل المجلسين للإبرام.
فيما سفيرتها الجديدة إلى بيروت، ليزا جونسون، في جلسة تثبيت تعيينها أمام لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ قبل يومين فقط، تكرِّر الحديث عن “التهديد الذي يمثّله حزب الله للبنان”، أربع مرّات، في شهادتها المقتصِرة على صفحة واحدة، مع التذكير مجدّداً بأنّ هذا يحصل عشيّة سنة الانتخابات الرئاسية التمهيدية هناك، بما تحفل به من غليان شعبويّ ضاغط على السياسات والإدارات.
إذاً خلاصة الترجمة للنصّ الصيني السرّي: تسوية. برئيس تسوية وحكومة تسوية.
هل يصحّ هذا التعريب أو اللبننة؟ الجواب يتبلور بدءاً من اليوم، في السعودية.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…