لم يسبق في تاريخ لبنان الحديث ولا في تاريخ الأزمات الدولية أن هدّد الفراغ موقعين حسّاسَيْن في هرميّة مؤسّسات الدولة معاً: رئاسة الجمهورية وحاكمية “مصرف الدولة”.
حكومة نجيب ميقاتي والسلطة القائمة حالياً، بأدواتها ورموزها، أمام استحقاق غير مألوف. فقد باغتت القاضية الفرنسية أود بوريسي قضاء لبنان وسياسيّيه بإصدار مذكّرة توقيف دولية بحقّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بعد مسار من الملاحقة الأوروبية بدأ في تموز 2021، في الوقت الذي كان فيه جزء لا يستهان به من هذه “الطبقة” يُراهن على أنّ الضغط الأميركي قد يكون كافياً لعدم إزالة الخيمة كلّياً عن رأس “الحاكم”.
تتقاطع الأجواء في عين التينة والسراي الحكومي عند جملة واحدة: لا قرار قبل تبلّغ لبنان رسمياً نصّ مذكّرة التوقيف من الإنتربول، عبر وزارة العدل أو الخارجية، ودرس الجهات القضائية مضمون الاتّهامات فيها، ثمّ يُبنى على الشيء مقتضاه بعد عودة رئيس الحكومة والوفد الوزاري من قمّة جدّة.
إقالة سلامة
في السياق نفسه تستبعد مصادر وزارية احتمال إقالة حكومة ميقاتي حاكم مصرف لبنان مستفيدةً من الوضع القانوني لسلامة الملتبس حالياً والنصّ الفضفاض للمادّة 19 من قانون النقد والتسليف التي جاء فيها: “فيما عدا حالة الاستقالة الاختيارية لا يُمكن إقالة الحاكم من وظيفته إلا لعجز صحّي مثبّت بحسب الأصول أو لإخلال بواجبات وظيفته في ما عناه الفصل الأوّل من الباب الثالث من قانون العقوبات، أو لمخالفة أحكام الباب 20، أو لخطأ فادح في تسيير الأعمال”.
تستبعد مصادر وزارية احتمال إقالة حكومة ميقاتي حاكم مصرف لبنان مستفيدةً من الوضع القانوني لسلامة الملتبس حالياً والنصّ الفضفاض للمادّة 19 من قانون النقد والتسليف
تشير المصادر إلى حلّيْن في المدّة الفاصلة عن نهاية تموز: إمّا تعيين حاكم جديد، وهو أمرٌ يواجَه بفيتو شيعي، أو تطبيق قانون النقد والتسليف من خلال تسلّم نائب الحاكم الأوّل صلاحيّات الحاكم، وهو مسار قابل للتفاوض والالتزام به، مستبعدةً بالكامل “تعيين حارس قضائي على مصرف لبنان”.
وأمس، بعد نحو 24 ساعة من إصدار مذكرة التوقيف بحقه، أطلّ سلامة من قناة “الحدث” معلناً أنّه لن يتنحّى إلا إذا صدر حكم بحقه. وقال: “نائب حاكم المصرف المركزي سيتسلّم المنصب بعد انتهاء ولايتي”. وأكد حضوره “أي جلسة تحقيق يتمّ تبليغي بها حسب الأصول”، ناصحاً القضاء “البدء (بملاحقة) السياسيين وليس حاكم المصرف المركزي”.
كسب الوقت
وفق معطيات “أساس” يمكن الحكومة والقضاء في لبنان كسب المزيد من الوقت لأخذ القرار النهائي في كيفيّة التعامل مع تحوُّل حاكم مصرف لبنان إلى “مطلوب” للعدالة الدولية من خلال أمرين: الوقت الزمني الذي يستهلكه تسلّم لبنان المذكّرة وتعميمها على الدول الموقّعة على اتفاقية مع “الإنتربول”، وإعداد جهة الدفاع عن سلامة لطعنٍ في المذكّرة التي اعتبر حاكم مصرف لبنان، حامل الجنسية الفرنسية أيضاً، أنّها “تشكّل خرقاً لأبسط القوانين وتتجاهل الاتفاقيات الدولية، وتعاكس مبدأ قرينة البراءة، وتضرب سرّيّة التحقيقات”، متّهماً القاضية الفرنسية بـ “أخذ قرارها بناءً عى أفكار مسبقة”.
أمّا الالتفاف الأهمّ على القرار القضائي الفرنسي فقد يتجلّى، برأي مطّلعين، في “استعجال محاكمة سلامة وجميع المرتبطين بملفّه المالي في لبنان، وذلك لتأخير التحقيق الأوروبي بعد مسار من البطء والتمييع تحكّم بملاحقة هؤلاء منذ سنوات. لكنّ القضاء الأوروبي بات في صورة التقصير اللبناني الفاضح في مواكبة هذا الملفّ”.
أشهرٌ لبتّ الطعن!
يقول مصدر قضائي معنيّ لـ “أساس”: “مسار الطعن بحدّ ذاته قد يستغرق أشهراً لبَتّه، وقد يتمكّن محامو سلامة من إثبات تجاوز القاضية الفرنسية للمهل القانونية المُلزِمة وأصول التبليغ أو ضربها سرّيّة التحقيقات وقرينة البراءة. والطعن سيترافق أيضاً مع بتّ الدفوع الشكلية التي تقدّم بها سابقاً وكلاء الدفاع عن سلامة وشقيقه رجا ومساعدته ماريان الحويك أمام النيابة العامّة التمييزية، في شأن تعليق التعاون مع القضاء الأوروبي لأنّ ذلك يتعارض مع مسار التحقيقات في لبنان. قد يشكّل ذلك “القشّة” التي ستتمسّك بها الحكومة لعدم أخذ إجراء فوري بإقالة الحاكم في مجلس الوزراء أو الطلب منه التنحّي أو تعيين حاكم جديد قبل نهاية ولاية سلامة في آخر تموز”.
يضيف المصدر أنّ “إصدار مذكّرة التوقيف الدولية والطعن الذي سيقدّمه وكلاء الدفاع عن سلامة لن يُفرمِلا توجّه قاضية التحقيق أود بوريسي إلى إصدار القرار الظنّي قريباً تمهيداً لبدء محاكمة سلامة”.
وفق معطيات “أساس” يمكن الحكومة والقضاء في لبنان كسب المزيد من الوقت لأخذ القرار النهائي في كيفيّة التعامل مع تحوُّل حاكم مصرف لبنان إلى “مطلوب” للعدالة الدولية من خلال أمرين
تعميم المذكّرة
ستُعمِّم الشرطة الجنائية الدولية (Interpol) مذكّرة التوقيف الغيابية على 195 دولة، بينها لبنان والدول العربية والخليجية، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة التي تردّد كثيراً أنّها قد تكون وجهة سلامة بعد خروجه من الحاكمية، فيما لا نصّ في القانون اللبناني يُلزِم تسليم مواطن لبناني إلى دولة أجنبية، من دون اتّضاح تداعيات حمل سلامة للجنسية الفرنسية على ملفّه القضائي المفتوح في أوروبا.
محاكمة في علم الغيب!
المؤكّد أنّ النائب العامّ التمييزي سيطلب، فور تبلّغه بمذكّرة التوقيف، ضمّ ملفّ سلامة في باريس إلى ملفّه المفتوح في لبنان تمهيداً لحصر محاكمته على الأراضي اللبنانية، لكن في الحقيقة ستكون محاكمةً في علم الغيب لأنّ المسار القضائي الذي طَبَع ملاحقة الحاكم داخلياً منذ عام 2019 في جرائم تبييض الأموال والإثراء غير المشروع والاختلاس والتزوير لا يشي بديناميكية والتزام بالملاحقة الفعليّة على غرار القضاء الأوروبي. والدليل الهرطقة القضائية التي واكبت قرار تبليغ الحاكم بموعد مثوله أمام بوريسي في 16 أيار الجاري.
هذا وتتوقّع مصادر مطّلعة حصول رفض فرنسي للطلب اللبناني على اعتبار أنّ ملاحقة سلامة هي شأن سيادي فرنسي مرتبط بجرائم تشتبه باريس بارتكابها من قبل حاكم المصرف المركزي اللبناني مع متّهمين آخرين على الأراضي الفرنسية.
النشرة الحمراء
“النشرة الحمراء” التي سيرد فيها اسم رياض سلامة هي طلب، وفق نصّ إنشاء “الإنتربول”، يُقدَّم إلى أجهزة إنفاذ القانون في أرجاء العالم لتحديد مكان شخص واعتقاله مؤقّتاً في انتظار تسليمه أو اتّخاذ إجراء قانوني مماثل. وهي تستند إلى مذكّرة اعتقال أو أمر محكمة صادر عن السلطات القضائية في البلد الذي قدّم الطلب. وتبتّ البلدان الأعضاء استناداً إلى قوانينها الخاصة اعتقال الشخص المعنيّ أو عدم اعتقاله. وهذا يعني أنّ السلطات القضائية اللبنانية، تحديداً النيابة العامّة التمييزية، هي صاحبة القرار في إعطاء الإشارة بتوقيف الحاكم من عدمه أو وقف الملاحقة. لكنّها ملزمة فور تسلّمها المذكّرة سحب جواز سفره ومنعه مجدّداً من مغادرة الأراضي اللبنانية التي يصعب عليه بعد الآن مغادرتها أصلاً بحكم ورود اسمه في النشرة الحمراء.
تتضمّن النشرة الحمراء التي سيُدرج عليها اسم رياض سلامة نوعين من المعلومات:
– معلومات حول هويّة الشخص المطلوب، كالاسم، وتاريخ الولادة، والجنسية، ولون الشعر والعينين، والصور الفوتوغرافية، وبصمات الأصابع إذا توفّرت.
إقرأ أيضاً: سلامة باقٍ في الحاكميّة.. لـ”تصريف الأعمال” النقديّة؟
– معلومات متعلّقة بالجرائم المنسوبة إلى الشخص المعنيّ.
وفق نظام “الإنتربول” لا يستطيع الأخير إلزام أجهزة إنفاذ القانون في أيّ بلد باعتقال شخص صدرت بحقّه نشرة حمراء. ويحدّد كلّ بلد عضو القيمة القانونية التي يسبغها على النشرة الحمراء والسلطة الممنوحة لموظّفي إنفاذ القانون في إجراء الاعتقالات.
خسارة أخرى
أصدر قاضي التحقيق الأوّل بالإنابة شربل أبو سمرا أمس قراراً قضى بردّ الدفوع الشكلية المقدّمة من وكلاء سلامة ضدّ الدولة اللبنانية، معتبراً أنّ “تدخّل هيئة القضايا في وزارة العدل في الدعوى المُقامة ضدّ سلامة قائم في محلّه القانوني”، وحدّد جلسة لاستجواب شقيق الحاكم رجا سلامة في 15 حزيران المقبل.
لمتابعة الكاتب على تويتر: MalakAkil@