في 27 أيار الماضي احتفل الدكتور هنري كيسنجر بعيد ميلاده المئة. وبهذه المناسبة أجرت مجلّة “إيكونوميست” البريطانية مقابلة مطوّلة معه بصفته وزيراً أسبق للخارجية الأميركية، وأيضاً أستاذاً للعلوم السياسية ومنظّراً لها.
قالت المجلّة إنّ كيسنجر يمشي بصعوبة، لكنّه يتمتّع بعقل وقّاد. ومن هنا أهمية الآراء والمواقف التي أدلى بها في هذه المقابلة الطويلة (4 صفحات)، وخاصة عن مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وكلّ من الصين والاتحاد الروسي، وبالتالي مستقبل الأمن والنظام الجديد.
كثيرة هي المواقف التي أطلقها كيسنجر في المقابلة، لكن يمكن اختصار أهمّها بما يلي:
– يقف العالم على أبواب صراع دولي سببه أنّ كلّاً من الولايات المتحدة والصين يعتقد أنّه على صواب وأنّ الآخر يشكّل تهديداً استراتيجيّاً له.
– يمرّ العالم في حالة مشابهة لحالة ما قبل انفجار الحرب العالمية الأولى، فإذا لم نعثر على تسوية فإنّنا مقبلون لا محالة على المواجهة.
– إنّ الوسيلة الوحيدة لتجنّب الصدام تكمن في انتهاج دبلوماسية طويلة النفَس تعتمد على القيم المشتركة.
– إنّ مستقبل الإنسانية يتوقّف على مقدرة الصين والولايات المتحدة على التفاهم. وإنّ التقدّم في التكنولوجيا الإلكترونية واستخداماتها العسكرية يضعهما على مسافة خمس أو عشر سنوات فقط من المجابهة الحربية.
– إنّ أميركا لن تعامل الصين أبداً على أنّها قوة مساوية لها. ومن الجنون أن يعتقد الصينيون أنّ ذلك سوف يتغيّر.
– يحذّر كيسنجر من سوء تفسير واشنطن للطموحات الصينية، ويقول إنّ الصين تتّجه نحو مزيد من القوّة، لكنّها لا تطمح الآن إلى السيطرة على العالم بالمفهوم النازي، وليست معنيّة بإقامة نظام عالمي جديد على هذه القاعدة.
– الحرب التي شنّتها النازية كانت حتميّة بحكم عقيدتها. وهذه ليست عقيدة الصين وقادتها، ابتداء من ماوتسي تونغ الذي كان يحسب بدقّة مصالح وإمكانات الدولة الصينية.
يعتبر كيسنجر أنّ مبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا كانت كارثية وتعكس سوء تقدير للأمور، لكنّ الغرب يتحمّل المسؤولية أيضاً عمّا حدث ويحدث
الصين كونفوشية لا ماركسية
– إنّ النظام الصيني الحالي أقرب إلى الكونفوشيّة منه إلى الماركسيّة. وهذا يعلِّم القادة الصينيين كيف يحقّقون أقصى درجات القوّة التي تستطيع أن توفّرها لهم بلادهم والتي تمكّنهم من الشعور بالاحترام لدى تطبيقها.
– يدعو كيسنجر في ضوء ذلك إلى حوار أميركي – صيني دائم يأخذ في الاعتبار تطلُّع الصين إلى أن تلعب دوراً في النظام العالمي الجديد.
– إنّ التفاهم المشترك بين أميركا والصين ممكن، لكنّه ليس مضموناً. ولأنّه قد يفشل، فإنّ علينا (نحن الأميركيين) أن نكون أقوياء عسكريّاً لتجنّب أيّ فشل.
– إنّ تايوان هي مكان الامتحان لمعرفة الأبعاد والنوايا الأميركية والصينية على حدّ سواء.
– يذكر كيسنجر أنّه خلال المفاوضات الصينية – الأميركية بين الرئيسين ماو ونيكسون في عام 1972 كان ماو المتحدّث الوحيد عن قضية تايوان. وكان صاحب السلطة المطلقة. وفي كلّ مرّة كان نيكسون يطرح قضية تايوان كان ماو يجيبه: “أنا لست سياسياً. أنا فيلسوف ولست معنيّاً بهذه الأمور. دع شوان لاي (وزير الخارجية الصيني) وكيسنجر يعالجا الأمر”. وكان يقول: “لا نريد استرجاع تايوان الآن، نستطيع أن ننتظر مئة عام أخرى، لكن لا بدّ أن نسترجعها يوماً ما”.
– اختصرت مبادرة دونالد ترامب المئة سنة إلى خمسين عندما حاول أن يحصل على تنازلات من الصين عبر استخدام ورقة تايوان. وتبعه في ذلك الرئيس بايدن لكن بوسائل أكثر ليبرالية.
– يشكّل الخوف من الحرب أرضيّة الأمل. ولكنّ المشكلة الآن تكمن في أنّه لا الصين ولا الولايات المتحدة في موقع القادر على التراجع أو على تقديم تنازلات.
– أكّد كلّ القادة الصينيين التزامهم باستعادة تايوان إلى الوطن الأمّ. ولكنّ التطوّرات التي وقعت لم تعُد تسمح للولايات المتحدة بالتخلّي عن تايوان من دون أن يؤدّي هذا التخلّي إلى تهديم صورتها والثقة بها في المناطق الأخرى.
– يقترح كيسنجر العلاج على طريقته المعهودة التي استخدمها في الشرق الأوسط بين إسرائيل والدول العربية، وهي تقوم على أساس خفض التوتّر وخفض الحرارة ثمّ ترميم الثقة تدريجياً لإعادة بناء جسور العلاقات. ويقترح كيسنجر ما يلي: بدلاً من أن يتمحور كلام الرئيس الأميركي حول الصعوبات والتحدّيات التي يواجهها، من المستحسن أن يقول للرئيس الصيني: إنّنا، أنت وأنا، إمّا أن ننقذ العالم معاً أو أن ندمّره معاً. ومن شأن ذلك أن يقود إلى ضبط النفس.
يعتقد أنّه بذلك تتحوّل تايوان إلى منطقة لعمل مشترك من أجل الخير الإنسانيّ العامّ.
يحذّر كيسنجر من أنّ الانهيار في موسكو سوف يخلق متاعب للصين لِما يحدثه من فراغ في شرق آسيا يُخشى أن تجري عمليّات ملئه على الطريقة التي حدثت في سوريا وأدّت إلى الحرب الأهلية المدمّرة
دعوة الصقور.. لـ”الاعتراف” بالصين
– يحذّر كيسنجر من سياسة “الصقور” في الولايات المتحدة، الذين يتطلّعون إلى كبح جماح التطوّر الاقتصادي الصيني من أجل استمرار الهيمنة على الاقتصاد العالمي.
– ينبّه كيسنجر إلى أنّه بدلاً من مواصلة الولايات المتحدة تعميق الخلاف مع الصين سيكون من المفيد أن تعترف بأنّ لها حقوقاً تدافع عنها. ويرى في ما يحدث في أوكرانيا درساً يجب التعلّم منه.
– يأخذ كيسنجر على التعامل السلبي الأوروبي مع مبادرة الرئيس الصيني تشي تجاه القضية الأوكرانية. ويدين هذا التعامل القصير النظر. ويرى في المبادرة فرصة ما كان لها أن تضيع.
– يعتبر كيسنجر أنّ مبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا كانت كارثية وتعكس سوء تقدير للأمور، لكنّ الغرب يتحمّل المسؤولية أيضاً عمّا حدث ويحدث. ويؤكّد مرّة جديدة اعتقاده بأنّ إبقاء الباب مفتوحاً أمام أوكرانيا للانضمام إلى الناتو (حلف شمال الأطلسي) كان خطأ. ويحذّر من أيّ عمليّة تؤدّي إلى عدم رضى روسيا وإلى عدم رضى أوكرانيا. ويرى في ذلك وصفة لصراع مستقبليّ لا تُحمد عقباه.
– يحذّر كيسنجر من أنّ السياسة الأميركية – الأوروبية مع أوكرانيا اليوم تحمل بذور خطر مستقبلي على القارّة الأوروبية وسلامتها. ويرى أنّ تسليح أوكرانيا، حتى الأسنان، من دون ضمّها إلى الناتو يعني في الحسابات الأخيرة تحويل أوكرانيا إلى قوّة عسكرية حسنة التسلّح والتدريب والخبرات العسكرية مع أضعف العلاقات مع أوروبا.
– ينصح كيسنجر من أجل السلام في أوروبا، القيام بأمرين: الأمر الأوّل هو ضمّ أوكرانيا إلى الناتو لاحتوائها في إطار الحلف، والثاني هو إقامة جسر اتّصال مع روسيا بهدف إقامة حدود سلام معها.
إقرأ أيضاً: كيسنجر في عامه المئة: 10 سنوات فقط تفصلنا عن حرب عالميّة ثالثة
أخيراً يحذّر كيسنجر من أنّ الانهيار في موسكو سوف يخلق متاعب للصين لِما يحدثه من فراغ في شرق آسيا يُخشى أن تجري عمليّات ملئه على الطريقة التي حدثت في سوريا وأدّت إلى الحرب الأهلية المدمّرة. ويعرب عن شكوكه في إمكانية عمل روسيا والصين معاً. صحيح أنّ الجامع المشترك بينهما هو عدم الثقة بالولايات المتحدة، لكنّ هناك شعوراً عميقاً من اللاثقة بينهما متأصّلاً في الثقافة السياسية لكلّ من بكين وموسكو.
يقول كيسنجر: لم أقابل أيّ مسؤول روسي يقول شيئاً إيجابياً عن الصين. فهما ليسا حليفين طبيعيَّين.
في رأيه أنّ الصينيين دخلوا القضية الأوكرانية من بوّابة التعبير عن مصالحهم الاستراتيجية الوطنية، مؤكّدين أمرين: استقلال أوكرانيا وتجنّب اللجوء إلى السلاح النووي.