في “بيتنا” مستوطنة إسرائيليّة

مدة القراءة 6 د

لم يكن أستاذ جغرافية فلسطين، الراحل البروفسور كمال عبد الفتاح، يقبل غير تسمية واحدة للمستوطنات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلّة. كان يصرّ على القول، “هي أدوات حرب، وليست مستوطنات”. وبعد سنوات على رحيله وعقود على بناء أوّل مستوطنة في الضفّة الغربية، ما زال سلاح المستوطنات الإسرائيلي يهدّد ويضرب كلّ بيت فلسطيني.
إنّ مصطلح مستوطنة، حسب علم الآثار، الذي يعني “تجمّعاً سكّانياً تاريخياً، تجمّعاً سكّانياً مؤقّتاً أو دائماً في منطقة ما”، لا يحمل أيّ دلالات سلبية، لكن في فلسطين المحتلّة تختلف المسألة، ويتّضح أنّ ثمّة أمثلة عديدة من قائمة لا تنتهي تثبت صحّة ووجاهة توصيف البروفسور عبد الفتّاح.

حكاية “المغير”
حكاية بلدة “المغير” الواقعة على بعد كيلومترات معدودة من مدينة رام الله وسط الضفّة الغربية، واحدة من مئات الحكايات الفلسطينية التي تعجّ بروايات الهجوم الاستيطاني المتواصل. مباشرة بعد احتلال عام 1967، شقّت إسرائيل طريق “ألون” الذي قسم الضفّة الغربية وأصبح مع مرور السنين أهمّ الطرق الرابطة بين المستوطنات الإسرائيلية فيها. وبعدما التهم الطريق معظم أراضي المغير من الجهة الشرقية، وقعت أراضي البلدة (نحو 40 ألف دونم) تحت سطوة الجيش الإسرائيلي، وأصبحت مناطق عسكرية، ولم يبقَ للبلدة أكثر من ألف دونم للتوسّع. أُغلقت المراعي، وتقلّصت أعداد المواشي (ظلّ الاستيطان مصدر الدخل الرئيسي) من أكثر من عشرين ألف رأس ماشية، إلى ما يقارب ألفاً، ولم يعُد بمقدور السكّان فلاحة أرضهم وزراعتها.

عشرات آلاف العمّال الفلسطينيين ومورّدي موادّ وخدمات يعملون في بناء المستوطنات وفي صيانتها، بينما يقوم تجار فلسطينيون أيضاً بتسويق منتجاتها في مناطق الضفة الغربية

لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، وعلى الرغم من عدم وجود وحدة استيطانية واحدة على أرض المغير، إلّا أنّ هجمات واعتداءات مستوطني المستوطنات المحيطة، بحماية الجيش الإسرائيلي، على أهالي بلدة المغير لا تتوقّف. يغلق الجيش البلدة بحاحز عسكري دائم عند المدخل الشرقي بجوار الطريق الاستيطاني، ويمنع الدخول والخروج من المدخل الغربي بشكل يومي تقريباً.
يقول أمين أبو عليا، رئيس مجلس محلّي في المغير، إنّ أربعة شهداء سقطوا وأصيب مئات آخرون، واعتُقل نحو 200 خلال العامين الأخيرين.
يضيف: “كلّ بيت في البلدة هو في مواجهة متواصلة مع المستوطنين والجيش، ونحن مستعدّون للدفاع حتى الرمق الأخير، لكن لا نعرف ما يمكن أن تؤول إليه الأمور”.
قبل أيام اضطرّ سكّان تجمّع “عين سامية” البدويّ القريب من بلدة المغير إلى الرحيل تحت وطأة ضربات المستوطنين المتلاحقة، ولم تنفعهم المساعدات وزيارات التضامن أمام هجمات مستوطني ما يُعرف بـ”الاستيطان الرعويّ”.
وفق هذا النوع من الاستيطان، يمكن لأيّ إسرائيليّ أن يجلب معه رأس ماشية واحداً أو قطيعاً إلى أيّ منطقة يختارها في الضفة الغربية (الواقعة في ما يُعرف بمناطق “ج”، حيث السيطرة الإسرائيلية الكاملة حسب اتفاق أوسلو)، وهو الوحيد الذي يقرّر حدود منطقة الرعي المكفولة طبعاً بحماية الجيش وتوفير ما يحتاج إليه من خدمات من قبل دولة الاحتلال، وما يلبث الموقع أن يصبح مستوطنة جديدة تضمّ آلاف الدونمات تحت سيطرتها.
تشكّل المستوطنات الإسرائيلية ما نسبته 42% من مساحة الضفة الغربية، وبشكل أوضح فإنّ 68% من مساحة المنطقة “ج” في الضفّة تمّت السيطرة عليها لمصلحة المستوطنات، وهي المنطقة التي تضمّ 87% من موارد الضفّة الطبيعية و90% من غاباتها و49% من طرقها. وفي الضفة الغربية 179 مستوطنة إسرائيلية، فيما يبلغ عدد المستوطنين في الضفة بما فيها مدينة القدس الشرقية المحتلّة 950 ألف مستوطن. واللافت أنّ عدد المستوطنين في محافظة سلفيت الواقعة بين نابلس ورام الله، زاد على عدد الفلسطينيين في المنطقة. وتعتبر بلدة راوبي التي أُقيمت حديثاً شمال مدينة رام الله، أوّل بلدة أو حاضرة فلسطينية بُنيت خلال العصر الحديث.

يقول أمين أبو عليا، رئيس مجلس محلّي في المغير، إنّ أربعة شهداء سقطوا وأصيب مئات آخرون، واعتُقل نحو 200 خلال العامين الأخيرين

تراخيص الاستيطان بالجملة
في المقابل تقول دراسة أعدّها معهد الأبحاث التطبيقية (أريج)، المركز المختصّ بدراسة الاستيطان الإسرائيلي، إنّ “عام 2022 شهد إعطاء إسرائيل تراخيص لبناء 12 ألفاً و934 وحدة استيطانية في الضفة الغربية بما فيها مدينة القدس الشرقية، مقابل هدم 318 منزلاً و583 منشأة فلسطينية، وشنّ المستوطنون 1,296 اعتداء، وكان لمحافظة نابلس (شمالي الضفة الغربية) النصيب الأكبر منها بواقع 293.. واقتُلعت 12 ألفاً و500 شجرة مثمرة جلّها من أشجار الزيتون”.
خلال العامين الماضيَين ارتفع منسوب هذه الهجمات والاعتداءات وتوسّع نطاقها ليشمل البلدات والقرى الفلسطينية مباشرة كما في مثال بلدة المغير وحوارة جنوب نابلس وبرقة القريبة منها حيث سمح للمستوطنين بالعودة إلى مستوطنة “حومش” التي كانت أُخليت ضمن اتفاق مع السلطة الفلسطينية عام 2005.
يُعتبر وسط مدينة الخليل، ولا سيّما منطقة البلدة القديمة حيث الحرم الإبراهيمي ويقيم مستوطنون بجوار السكّان الفلسطينيين، من أكثر البؤر توتّراً في الضفة الغربية، عدا عن البلدة القديمة في القدس واقتحامات المستوطنين المتواصلة للمسجد الأقصى، إضافة إلى اقتحاماتهم المستمرّة لضريح “قبر يوسف” في مدينة نابلس.

إقرأ أيضاً: إسرائيل والخوف على المكانة؟

يتحرّك فلسطينيّو الضفة الغربية في منطقة أقامت إسرائيل عليها، خدمةً وحمايةً للمستوطنين، 84 حاجزاً عسكرياً تعيق حركة الفلسطينيين وكلّفتهم 160 مليون ساعة انتظار (خلال 2022) استُثني منها الوقت المهدور عند الحواجز بين الضفة الغربية وإسرائيل، وفق دراسة معهد (أريج).
المفارقة أنّ عشرات آلاف العمّال الفلسطينيين ومورّدي موادّ وخدمات يعملون في بناء المستوطنات وفي صيانتها، بينما يقوم تجار فلسطينيون أيضاً بتسويق منتجاتها في مناطق الضفة الغربية، حيث يتلقّفها معظم المستهلكين في الأسواق المحلية، بل إنّ إحدى شركات التأمين الوطنية الفلسطينية أعلنت أخيراً إصدار بوليصة تأمين لبيعها للفلسطينيين “المتضرّرين من اعتداءات المستوطنين”، فيصبح واجباً عليهم أيضاً الإنفاق على هذه الهجمات من جيوبهم الخاصة. إنّها مفارقة عجيبة لكنّها مستمرّة.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…