لا أميل لتسخيف هواجس الجماعات اللبنانية حين تعبّر بوضوح عن مخاوف وهواجس وارتيابات تحدّدها بدقّة، كما فعل إبراهيم الأمين، في جريدة “الأخبار”، عبر مقال تحت عنوان “مَن هو المجنون الذي يعمل على عزل المقاومة؟”. فما كتبه يندرج ضمن هذا التعبير العلني عن مخاوف وهواجس وارتيابات، تظلّ مهمّة وجديرة بالنقاش المباشر، مهما اختلف التقويم حول واقعيّتها أو وهميّتها. لأسباب كثيرة، طغى على التفاعل مع مقال الأمين ما يُنسب إليه عادة، بأنّ مقالته امتداد لكاتم الصوت، وكأنّه يكتب ببارود رصاصات فُرّغت على طريقة عمل المافيا في بعث رسائلها. بيد أنّ المسألة أبعد من ذلك بكثير.
مقالة الأمين تعبير صادق عن قلق يعتريه، لا كشخص، بل كصوت مجموعة أهليّة وسياسية ضمن الطائفة الشيعية، هو ابنها الموصول بمفاتيحها وأعصابها وما يدور في خلدها. وهي مقالة جديرة بالنقاش، بصفتها هذه، لا بوصفها تجسيداً لنزق شخصي أو مزاج فردي.
ثمّة خوف حقيقي عند من نطق الأمين باسمهم، من أنّ ثمّة “مجنون” وأنّ هذا المجنون يعمل على “عزل” المقاومة.
مقالة الأمين تعبير صادق عن قلق يعتريه، لا كشخص، بل كصوت مجموعة أهليّة وسياسية ضمن الطائفة الشيعية، هو ابنها الموصول بمفاتيحها وأعصابها وما يدور في خلدها
الجنون والسحر والقوى الجبّارة
ما الذي حصل؟ يسأل إبراهيم الأمين في مقالته.
وحين يسعى إلى تدبيج إجابة على سؤاله، باجتراح سؤال إضافي، تراه يقول:
من هي هذه القوّة الجبّارة التي أعادت وصل ما لا يمكن لحمه بين قوى وتيّارات ومجموعات في معركة واحدة هدفها إطاحة فرنجيّة، ونتيجتها عزل المقاومة؟
ثمّ لا يلبث أن يضيف سؤالاً ثانياً: ما هو السحر الذي أعاد جمع التيار الوطني الحر بكلّ خصومه؟ وما هو السحر الذي أضاف إلى هؤلاء، وليد جنبلاط، ومن يعتقدون أنّهم ورثة آل الحريري بين السُّنّة؟
من عنوان المقال إذاً إلى متنه، يبني إبراهيم الأمين عالماً يتحكّم فيه الجنون، والسحر، والقوى الجبّارة، بالعملية السياسية.
فمن يسوّق للوزير السابق جهاد أزعور ليس سياسياً له تصوّر مختلف للمصلحة السياسية، بل مجنون، تُدحض أفكاره وسياساته ووجهات نظره بفعل جنونه لا بفعل فعاليّة الرواية المضادّة له. وإذا ما نجح هذا “المجنون” في أن يستقطب إلى خياراته مجموعة من القوى السياسية، نسب الأمين هذا النجاح إلى أفعال “قوّة جبّارة” وظّفت “المجنون” وحمَّلته مشروعها. وحيث تتّسع دائرة المؤيّدين لـ “المجنون” وخياراته، كأن يدخلها وليد جنبلاط بعد وعود مغايرة قطعها لنبيه برّي، وبما يتجاوز توقّعات الأمين وفريقه السياسي، فلا بدّ إذاً لهذا الاتّساع أن يكون من نتاج “السحر” لا من إفرازات السياسة والتواصل والمحاججة والمنطق.
عالم متكامل من المجانين والسحرة وذوي القوى الجبّارة هو ما يخيف الأمين، وما يسوّغ بالتالي استخدام كلّ ما يمكن ضدّهم لتقويض موقفهم وإبطال مشروعهم، كأعداء لا كخصوم. سلخ تامّ للعقلانية عن الفعل السياسي وعودة بالاجتماع السياسي إلى حالته الصراعيّة الأولى، حيث الجميع ضدّ الجميع (توماس هوبز)، بلا أيّ حدود دنيا من الفهم المشترك أو القيم المشتركة.
وهذه ليست العدسة التي من خلالها ينظر الأمين إلى العالم كفرد فقط، بل هي عدسة مجموعة أهليّة وسياسية كاملة، مهجوسة بعوالم الخرافة والغيب والسحر والقوى الخارقة، ولا تقوى على الاعتراف بتعقيدات العملية السياسية، ولا ترتاح إلا إلى السرديّات الثنائية وفق معادلة “نحن مقابل هم”.
ثمّة خوف حقيقي عند من نطق الأمين باسمهم، من أنّ ثمّة “مجنون” وأنّ هذا المجنون يعمل على “عزل” المقاومة
“زينب لن تُسبى مرّتين”
هذا بالضبط ما عبّر عنه شعار “زينب لن تُسبى مرّتين” لحرب ميليشيا الحزب في سوريا، كدليل على اغتراب وتشاؤم هذا الفريق السياسي، وشكوكه المرَضية بالديناميات الاجتماعية والسياسية التي من طبيعتها توليد سياقات وتحوّلات سياسية في التوازنات والأنظمة والبنى الحاكمة. إنّ استدراج رمزيّات دينية وتاريخية، مشحونة بالعاطفة، من شأنه أن يشوّه التصوّر العامّ للأحداث ويكرّس الصور النمطية عن الآخر ويعمّق حال الاغتراب السياسي والاجتماعي بين المكوّنات، بما يسمح بشيوع فرضية التهديد الوجودي في الكبيرة وفي الصغيرة.
إنّ تبسيط سياقات المعركة الرئاسية اليوم بجعلها معركة بين الجنون والعقل، هو نظير تبسيط الحرب السورية كأزمة جيوسياسية متعدّدة الأوجه، واختصارها في رواية دينية عاطفية، لا حلول عملية لها إلا بالخيارات القصوى، والتي غالباً ما تكون احتراباً أهليّاً إباديّاً للآخر.
إنّ أخطر ما أفصح عنه مقال إبراهيم الأمين، أو المقال-العدسة، هو عجز بيئة سياسية كاملة الآن، عن تقديم الحدّ الأدنى، من النقد الذاتي الضروري، والاكتفاء بعملية تدوير أبديّة لتصوّراتها ومواقفها ومعلوماتها الراهنة، من دون أيّ جهد لفهم ما يحيط بها من تطوّرات وتغييرات تطرأ على الأحداث أو الأفكار أو المصالح. ويُلقي هذا بظلال من الشكّ على أصالة وعمق ما نُسب لهذه المجموعة السياسية في السابق من براغماتية وبراعة لافتة في التأقلم والاستيعاب والمرونة.
لماذا “غادر” جبران باسيل؟
فكيف لا يسأل إبراهيم الأمين نيابة عن ميليشيا الحزب، عمّا دفع جبران باسيل لأن يختار ما اختاره الآن وقرّر أن يذهب بعيداً في مخالفة توجّهات حلفائه؟ وكيف لا يسأل إبراهيم الأمين، عن الداعي لأن لا يعود باسيل قادراً على تحمّل أسلوب ميليشيا الحزب وخياراتها؟ وكيف لا يثير فضوله عدم قدرة ميليشيا الحزب على الوصول إلى اسم رئاسي مشترك مع باسيل، من بين أسماء كثيرة، قادر على طمأنة الحزب ورعاية حسابات حليفه في الوقت نفسه ولو على حساب سليمان فرنجية؟ ثمّ كيف للحزب الذي قاتل ويقاتل في سوريا واليمن والعراق، وآل إليه بعض من إدارة الملفّ الفلسطيني بعد مقتل قاسم سليماني، ويعِد بتغيير المعادلات في الإقليم والعالم، أن يرى كلّ هذا التهديد الوجودي في ترشيح جهاد أزعور إلى رئاسة الجمهورية؟ وكيف لا يستفهم إبراهيم الأمين عن الأسباب التي أدّت إلى شبه إجماع مسيحي، وأغلبية وطنية، وأكثرية نيابية، على اسم جهاد أزعور؟ وعلى فرض أنّ كلّ هؤلاء خونة ومسحورون وخاضعون لتأثيرات القوى الخارقة، فماذا يطمئن ميليشيا الحزب لمستقبلها ومستقبل بيئتها، ومع من يريدون بناء هذا المستقبل، إن كان الجميع حلفاء مؤقّتين وأعداء دائمين؟
إقرأ أيضاً: 6 وقائع: الحزب خارج “قراءة” الاتّفاق الصينيّ
هذه أسئلة لا يُجاب عنها بتفسيرات “الجنون والسحر والقوى الخارقة”، بل بنقد ذاتي لتيار سياسي كبير يصرخ اليوم بصدق في وجه من يتوهّم أنّهم يتآمرون على عزله، ذاهلاً عن حقيقة أنّ من عزل الحزب ليس سوى الحزب نفسه.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@