تعبُر السعودية باتجاه الطاقة النووية. وما كان تسريباً في الصحافة الأميركية بشأن مداولات بين الرياض وواشنطن في هذا الصدد، بات واقعاً، وصار على الولايات المتحدة أن تتّخذ موقفاً واضحاً بشأن دعمها للبرنامج النووي السعودي للأغراض المدنية. ولئن سبق لـ “وول ستريت جورنال” أن تحدّثت في كانون الأول 2021 عن برنامج سعودي للصواريخ الباليستية يعمل بالشراكة مع الصين، فإنّ في الأمر أيضاً تلويحاً بما تملكه الرياض من بدائل في حال رفضت الولايات المتحدة التعاون في المجال النووي، خصوصاً أنّ شركة “روساتوم” الروسية بدت منخرطة في برنامج المملكة النووي.
وعلى نحو غير رسمي ربطت صحافة واشنطن بين الدعم الأميركي للبرنامج السعودي النووي موافقة الرياض على تطبيع العلاقة مع إسرائيل. افترضت التسريبات بأنّ الأمر هو واحد من أثمان تريد السعودية الحصول عليها في هذا الملفّ.
تمتلك إسرائيل برنامجاً نووياً، هو أيضاً لأغراض عسكرية، وأنتج ترسانة من الرؤوس النووية، وإن لم يتمّ الاعتراف رسمياً بذلك
يتجادل المعنيون همساً في الغرف الخلفيّة في شأن التحوّلات اللافتة الجارية في الشرق الأوسط. ولئن عبّرت زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للسعودية لمدّة 3 أيام عن مسعى أميركي جدّي لطيّ صفحة التوتّر في علاقة الإدارة الديمقراطية مع الرياض، غير أنّ تزامن بدء الزيارة مع احتفالات إعادة فتح السفارة الإيرانية في السعودية ليس تفصيلاً عرضيّاً في تفسير توازنات المشهد الإقليمي الجديدة التي تعمل السعودية وفق حقائقها.
قنبلة بن سلمان النووية
إذا كبّرنا المشهد فسنرى أنّ السعودية تطبِّع علاقاتها مع الجمهورية الإسلامية في إيران بالواقع والملموس، فيما مسألة التطبيع مع إسرائيل ما زالت في مستوى افتراضي دونه ظروف وموانع وشروط المبادرة. في المشهد أيضاً أنّ أيّ تطبيع سعودي مع إسرائيل ولو أنّه مستبعد سيقوم على موازين قوى أخرى عمادها تطوّر العلاقات بين الرياض وطهران (والصين وروسيا قبل ذلك). وفي المشهد أيضاً وأيضاً أنّ السعودية لن تقبل، في مسألة برنامجها النووي، بأقلّ ممّا هو مقبول في ملفّ إيران النووي وفق اتفاق فيينا عام 2015 أو أيّ صيغة جديدة، ولا سيّما لجهة امتلاك السيادة على إنتاج اليورانيوم المخصّب داخل أراضيها.
في الموقف السعودي ما أعلنه الأمير عبد العزيز بن سلمان، وزير الطاقة، في 11 كانون الثاني الماضي، من أنّ المملكة سوف تبدأ باستخدام يورانيوم محلّي المصدر لبناء قوّتها النووية. وفي الموقف أيضاً ما قاله وليّ العهد السعودي الأمير محمد في 15 آذار 2018: “إذا طوّرت إيران قنبلة نووية فستفعل المملكة العربية السعودية الشيء نفسه في أسرع وقت”.
في هذا السياق تكتشف إسرائيل واقعاً محرجاً يناور ما بين التوق إلى تطبيع العلاقات مع دولة ذات مكانة كبرى ومحورية لدى العالم الإسلامي مثل السعودية وبين الموقف من طموحات الرياض إلى إقامة برنامج نووي. فإسرائيل، التي قصفت مفاعل تموز العراقي (1981) ومنشأة في دير الزور يُشتبه بأنّها كانت تعدّ لبرنامج نووي سوري (2007)، وترفض مبدأ قيام برنامج نووي إيراني، تعادي لنفس الأسباب والظروف والمعطيات برنامجاً نووياً جديداً في المنطقة تخطّط له السعودية وتدرب له مواطنيها من أصحاب الاختصاص.
تستفيد السعودية من تطوّر علاقاتها مع إيران وروسيا والصين ودول الـ “بريكس” وغيرها لتقوية أوراقها في العلاقة مع المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة
على الرغم من توق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو إلى تسجيل إنجاز تاريخي يُسجّل له في مسألة التطبيع، عبّر وزير الطاقة الإسرائيلي يسرائيل كاتس في 5 أيار الفائت من دون لبس عن معارضة إسرائيل لإمكانية أن توافق الولايات المتحدة على مطلب السعودية إقامة منشأة تخصيب يورانيوم في أراضيها، في إطار صفقة تطبيع علاقات بين الجانبين. صحيح أنّ موقف كاتس لا يمثّل، حتى الآن، موقف الحكومة الإسرائيلية، لكنّ توقيته يثير جدلاً إسرائيلياً داخلياً ويمثّل ضغطاً على بلينكن الذي وعد أمام مؤتمر لوبي “إيباك” (AIPAC) المناصر لإسرائيل في 5 أيار بأن تلعب واشنطن دوراً حيوياً لإقناع الرياض بمسألة التطبيع مع إسرائيل.
ضرب مفاعلات سوريا والعراق…
تمتلك إسرائيل برنامجاً نووياً، هو أيضاً لأغراض عسكرية، وأنتج ترسانة من الرؤوس النووية، وإن لم يتمّ الاعتراف رسمياً بذلك. تسعى إسرائيل إلى الحفاظ على تفوّقها في هذا القطاع واحتكارها له في الشرق الأوسط. وتعتبر، وفق مصادرها، أنّ رفع اعتراضها، ولا سيّما لدى الكونغرس الأميركي، على وجود البرنامج النووي السعودي، سيشرّع الأبواب أمام رواج برامج نووية لبلدان أخرى سيقود حتماً إلى سباق تسلّح نووي في المنطقة. وإذا ما سهل على تل أبيب ضرب المفاعلات العراقية والسورية والتعامل العسكري والأمني مع مفاعلات إيران، فإنّ إخراج موقف سياسي حيال البرنامج السعودي يبدو معقّداً بالنظر إلى تطلّعات تل أبيب إلى تحقيق إنجاز تاريخي من خلال إقامة علاقات مع الرياض.
تستفيد السعودية من تطوّر علاقاتها مع إيران وروسيا والصين ودول الـ “بريكس” وغيرها لتقوية أوراقها في العلاقة مع المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة. والواضح من سعي واشنطن الجديد إلى إعادة تأهيل وتطوير وتمتين علاقاتها مع الرياض، أنّ الأمر يجري على قاعدة التسليم بأمر واقع بات نهائياً في شأن التموضع الذي اختارته السعودية على الخرائط الدولية، وقيام دينامية سعودية في العلاقات الدولية تحرّكها المصلحة السعودية وحدها المتجرّدة من عقد الأحلاف و”العلاقات التاريخية”، ويجري أيضاً على قاعدة انتهاء تحالف الرياض غير المشروط والحصري مع واشنطن.
إقرأ أيضاً: شهران على بكين: إيران غير معنيّة؟
تدرك إسرائيل هذه الحقيقة من خلال مراقبتها للأداء السعودي في السنوات الأخيرة. وتدرك أكثر من خلال تأمّلها لتحوّلات علاقة الرياض بواشنطن وعلاقة الرياض بالعالم أنّ البرنامج النووي السعودي بات جزءاً بنيوياً وعضوياً من السعودية الجديدة بقيادة الملك سلمان بن عبد العزيز وسياقاً منطقياً داخل “الرؤى” الاستراتيجية التي يدفع بها وليّ العهد الأمير محمد. تدرك أخيراً أنّ أيّ طموح إلى تطبيع العلاقات مع السعودية يجب أن يأخذ بالاعتبار أنّه سيكون تطبيعاً مع دولة نووية، وأنّ المسألة مسألة وقت لا تملك إسرائيل مفاتيحه.