لم يكن زفاف وليّ العهد الأردني الأمير الحسين بن عبدالله والآنسة رجوة خالد السيف الذي استضافته عمّان مجرد زفاف عادي بين امير هاشمي وفتاة سعوديّة عصريّة تنتمي إلى إحدى العائلات الراقية في المملكة.
كان الزفاف، يوم الأوّل من حزيران 2023، أكثر من ذلك. سيبقى هذا اليوم محفوراً في ذاكرة الأردنيين خصوصاً أنّه عكس صورة لمملكة، استطاعت ترتيب أمورها الداخليّة أوّلا في مواجهة مخاطر لا تُعدّ ولا تُحصى. بات الأردن مملكة حديثة يتأكّد يومياً دورها على الصعيد الإقليمي من جهة وقدرتها على التطوّر في ظلّ الإستمراريّة من جهة أخرى.
الأردن والمؤسسات الراسخة
مرّة أخرى، توفرت مناسبة كي يستوعب كلّ من يعنيه الأمر أنّ المملكة الأردنية الهاشميّة لاعب أساسي واستثنائي في المنطقة، مهما تبدّلت الظروف في المشرق العربي. يعود ذلك بكلّ بساطة إلى وجود مؤسسات راسخة، بناها الراحل الملك الحسين بن طلال، لدولة استطاعت تطوير نفسها في مواجهة ظروف قاسيّة في غياب أيّ ثروات طبيعيّة، بما في ذلك المياه.
وفرّ الزفاف فرصة للتعرّف إلى مدى إرتباط القصر بالشارع الأردني، ارتباط الملك عبدالله الثاني والملكة رانيا بالمواطن. كان فرح الناس العاديين في عمان بالزفاف عفوياً وحقيقياً. إن دلّ ذلك إلى شيء، فهو يدلّ إلى مدى تجذّر الاستقرار في بلد، يمرّ بأزمة إقتصاديّة، لكنّه واجه في الماضي ومازال يواجه كلّ أنواع العواصف والخضات منذ تأسّس قبل ما يزيد على مئة عام.
ملأ المواطنون الذين رفعوا الأعلام الأردنيّة الطريق الطويلة المؤدية من قصر زهران، حيث عقد الزواج، وبين حدائق قصر الحسينية التي استضافت حفلة استقبال كبيرة حضرها أصدقاء الأردن من مختلف بقاع الأرض. كان الملك والملكة والعريس والعروس ووالداها موجودين في حفلة الإستقبال. كان لديهم حرص على السلام على ما يزيد على الف مدعو أردني وعربي واجنبي وشكرهم على تلبية الدعوة.
تقدّمت المملكة الأردنيّة الهاشميّة نظرا إلى أنّها دولة تتعلّم من أخطائها، بما في ذلك خطأ الإنجرار إلى حرب 1967
كان الزفاف فخما ومتواضعا في آن. اعطى فكرة حيّة عن الإردن الذي استطاع عبدالله الثاني النهوض به في ظروف في غاية الصعوبة والتعقيد في ضوء وفاة الملك الحسين مطلع العام 1999. يتبادر إلى الذهن لدى من يزور عمّان هذه الأيام في مناسبة الزفاف الملكي، لماذا نجح الأردن وفشلت دول أخرى في الشرق العربي في مقدّمها سوريا؟ أين سوريا الآن وأين الأردن الذي لم يضع يوما فرصة الإستفادة من التجارب التي مرّ بها، بما في ذلك تجربة المواجهة مع الفدائيين الفلسطينيين في العام 1970.
ماذا لو نجح “أيلول الأسود”؟
يبقى السؤال الذي يفرض نفسه، لدى رؤية مدينة عمان التي تحولت من قرية إلى مدينة مترامية الأطراف في السنة 2023، ما الذي كان يمكن ان تكون عليه الأمور لو انتصرت المنظمات الفلسطينية على الملك الحسين في ما يسمّيه الفلسطينيون “أيلول الأسود”؟ كان تحقيق ذلك الإنتصار، أكبر خدمة لإسرائيل وللمنادين فيها بجعل الأردن “الوطن البديل”؟
لم يحم الأردن نفسه في العام 1970 فحسب، بل حمى الفلسطينيين من انفسهم أيضا. حماهم في مواجهة إسرائيل. حماهم من الإستمرار في السقوط في اسر الشعارات الفارغة والمزايدات التي ارتدت عليهم. ليس صدفة أن الأردن بات الآن خط الدفاع الأوّل والأخير عن خيار الدولة الفلسطينيّة.
كان زفاف وليّ العهد نقطة تحوّل في غاية الأهمّية في سياق قصة نجاح اردنيّة مستمرّة. كشف الزفاف وتجاوب الشارع معه البعد الإنساني في تجربة الأردن. يبدو الجديد الحقيقي في الأردن شعور المواطن، الذي من اصل فلسطيني، بأن لديه مصلحة حقيقيّة في المحافظة على هذا البلد بعدما كان في الماضي يتجاهل ذلك. كان لافتا نزول الأردنيين جميعا إلى الشارع للإحتفال بزفاف وليّ العهد. لم يعد من فارق بين شرق اردني واردني من أصول فلسطينية.
كان الفلسطيني في الماضي، بشكل عام، جاحدا في حق الأردن الذي اسّس بالفعل لخيار قيام دولة فلسطينية في الضفّة الغربيّة، دولة مستقلّة وقابلة للحياة عندما اتخذ الملك الحسين قرار فكّ الإرتباط مع الضفّة في تموز – يوليو من العام 1988. رسم العاهل الأردني الراحل الحدود المفترضة للدولة الفلسطينية التي لا تزال هدفا لا بدّ من القضاء عليه لليمين الإسرائيلي.
دولة متصالحة مع نفسها
يبقى أهمّ ما في الزفاف الملكي الأردني ظهور دولة متصالحة مع نفسها قبل أي شيء آخر. دولة تتعاطى بقيادة عبدالله الثاني مع الواقعين الإقليمي والعالمي بعيداً عن الأوهام. هذا ما يفسّر ذلك الحضور الغربي الكبير للزفاف، كذلك الحضور العربي المهمّ. في النهاية إن عبدالله الثاني رجل من هذا العالم يعرف ما يدور فيه ويعرف، عن كثب، الشخصيات الفاعلة أميركياً وأوروبياً وعربيّاً.
في الماضي القريب، كان الفلسطيني يتوجس من الأردن الذي وفّر فرصة مناسبة ثانية لتحديد الحدود المفترضة للدولة الفلسطينيّة المستقلّة عندما وقعت المملكة اتفاق سلام مع إسرائيل في تشرين الأوّل – أكتوبر 1994. حافظت المعاهدة على حقوق الأردن في الأرض والمياه وقطعت الطريق على أوهام اليمين الإسرائيلي وافكاره المريضة التي لا يزال “بيبي” نتانياهو يعبّر عنها بين حين وآخر، وهي أفكار تكشف خبثا وعداء.
تقدّمت المملكة الأردنيّة الهاشميّة نظرا إلى أنّها دولة تتعلّم من أخطائها، بما في ذلك خطأ الإنجرار إلى حرب 1967. تعود القدرة على التعلّم إلى وجود نظام ملكي يؤمن بشعبه لا اكثر ولا اقلّ. لا عقد لدى الملك في الأردن. سمح غياب العقد بإقامة هذا الزفاف الرائع الذي شارك فيه الأردنيون مؤكدين للمرّة الألف أن الشعوب تفضّل حكاما طبيعيين يرفضون العنف ويسعون إلى المحافظة على بلدهم. الأكيد أن وليّ العهد الحسين بن عبدالله، الذي يُهيّأ ليكون ملكاً يوماً، بات يعرف الطريق الذي تسير فيه المملكة الهاشمية حيث القصر على مسافة واحدة من كلّ مواطن اردني بغض النظر عن اصوله أو ديانته… أو مذهبه.