حين قامت مصر بالتطبيع، ظهر إجماع عربي ومن ضمنه فلسطيني رافض للخطوة. بدا الأمر كما لو أنّه زلزال أصاب العالم العربي، أسفر عن معاقبة مصر بمقاطعتها وزعزعة مكانتها التاريخية القيادية بنقل الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس.
انقسم العرب آنذاك، وظهرت تصنيفات للمواقف، فنشأت جبهة الصمود والتصدّي وقوّتها الكبرى الجزائر، ومعها اليمن الجنوبي وسوريا وليبيا وفلسطين، وأمّا باقي الدول فاحتفظت لنفسها بمفهومها الخاص للتطبيع وكيفية الردّ عليه.
كان الفلسطينيون آنذاك، أي الثورة التي يقودها بالجملة والتفصيل ياسر عرفات، واقعين في حضن النفوذ السوري المتحالف مع ليبيا، وتحت التأثير الجزائري المعنوي، وكان الخاسر الأكبر في اللعبة ياسر عرفات، الذي أعلن السادات عزمه على زيارة القدس بحضوره، ذلك أنّ اشتراكه وإن ببعض تلكّؤ في منظومة الداعمين لإلحاق أشدّ العقوبات بمصر، يعني خسارته للجدار الرئيسي الذي يستند إليه، فهو لم يكن مصريّ الهوى فحسب، بل ومصري الحسابات والمصالح والبقاء السياسي.
حين قامت مصر بالتطبيع، ظهر إجماع عربي ومن ضمنه فلسطيني رافض للخطوة. بدا الأمر كما لو أنّه زلزال أصاب العالم العربي، أسفر عن معاقبة مصر بمقاطعتها وزعزعة مكانتها التاريخية القيادية بنقل الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس
نهاية تجربة الصمود والتصدّي
انتهت تجربة الصمود والتصدّي، وأبدى العرب ندمهم على المقاطعة وعادت العلاقات مع مصر وعادت الجامعة العربية إلى مقرّها التاريخي، وبدأت مرحلة التطبيع العربي مع التطبيع المصري منذ التوقيع على معاهداته إلى يومنا هذا، مع التنويه إلى أنّه ظلّ تطبيعاً رسمياً عارياً عن عمق شعبي يعطيه طابع العلاقات العاديّة الشاملة مع الدولة العبرية، وكذلك الأمر مع الأردن.
بعد التطبيع المصري جاء الأردني، وبينهما أخطر مجازفة سياسية خاضها الفلسطينيون في تاريخ قضيّتهم وكفاحهم الوطني الصعب والشجاع والمكلف، وهي تجربة أوسلو، التي تُوّجت بمصافحة تاريخية بين قائد الثورة والشعب والقضية ياسر عرفات، وإسحق رابين الذي لم يكن ليتوقّع أنّ حكماً بالإعدام صدر بحقّه جرّاء هذه المصافحة.
لم يمضِ وقت طويل حتى نُفّذ الحكم بميدان ملوك إسرائيل، الذي صار يحمل اسمه بعد مقتله، وكان لحظة استقرار الطلقات في جسده يغنّي مع طاقم حكومته أغنية السلام.
بموت رابين وتهميش شيمون بيريز فيما بعد، دخلت تجربة أوسلو نفقاً مظلماً لا يُرى بصيص ضوء في نهايته، ومنذ تلك الرصاصات إلى يومنا هذا ذابت المضامين الإيجابية والرهانات الفلسطينية على وعود أوسلو، لتتحوّل إلى عكسها تماماً، وهذا ما نراه الآن.
رحل عرفات الذي لم يتوقّف عن وصف رابين بصديقي الراحل، لكنّ الذي رحل مع الاثنين هو وعد أوسلو، الذي دمّره رجلان وصلا إلى السلطة في إسرائيل وفق برنامج معلن بالقضاء عليه، وهما نتانياهو وشارون، اللذان أسّسا لقضبان تمشي عليها قطارات الحكومات المتعاقبة وفق شعار “لا لدولة فلسطينية حقيقية”.
بعد التطبيع المصري جاء الأردني، وبينهما أخطر مجازفة سياسية خاضها الفلسطينيون في تاريخ قضيّتهم وكفاحهم الوطني الصعب والشجاع والمكلف، وهي تجربة أوسلو
الدولة الفلسطينية هي الشرط الوحيد
رمى الفلسطينيون المخذولون أنفسهم في الحضن العربي بعدما خاضوا تجربة أوسلو منفردين، وتحصّلوا على المبادرة السعودية التي تحوّلت إلى عربية وإسلامية تحدّد للمرّة الأولى السياسة العربية الجماعية للسلام، وفي صلبها شرطٌ للتطبيع الأوسع، وهو قيام دولة فلسطينية مستقلّة على الأراضي التي احتُلّت في عام 1967، ومن ضمنها بالطبع القدس الشرقية.
لم تأبه إسرائيل للمبادرة العربية حتى إنّ إيهود أولمرت في لقاء له مع محمود عباس، ادّعى أنّه لا يعرف عنها شيئاً، وهو ما حمل الرئيس الفلسطيني على إرسالها إليه.
أمّا الرباعية الدولية فقد جاملت المبادرة بأن وضعتها واحدةً من المرجعيات العديدة للسلام المنشود، وظلّت بنداً ثابتاً في قرارات القمم العربية منذ إقرارها في بيروت إلى آخر قمّة عُقدت في جدّة.
فوجئ الفلسطينيون ككثيرين غيرهم بأوّل وجبة تطبيع حديث تمّت بين الإمارات والبحرين تحت رعاية الرئيس ترامب، ومثل الذي يطلق النار من بندقية ليسدّد بعد ذلك، هاجمت السلطة الرسمية الفلسطينية التطبيع الإماراتي بأشدّ العبارات، وهو ما بدا كما لو أنّه بداية حملة قوية يكون الفلسطينيون طليعتها في رهان انفعالي غير مدروس على أنّ بالإمكان إعاقة الذي حدث أو منع اتّساعه وتطوّره ليشمل دولاً عربية أخرى.
لم يكن للموقف الفلسطيني الانفعالي من التطبيع الإماراتي والبحريني أيّ صدىً جدّي على مستوى الدول، غير أنّ التحوّل الأهمّ الذي نشأ هو أنّ الدول العربية اعتبرت التطبيع أحد الشؤون السيادية، بما أنهى اشتراطه الجدّي والحاسم بحلّ القضية الفلسطينية وفق المبادرة العربية للسلام.
ظهر ندم فلسطيني رسمي على التسرّع في مهاجمة المطبّعين الجدد، فعاد السفيران اللذان سُحبا من المنامة وأبو ظبي إلى سفارتيهما وطُويت صفحة لتُفتح صفحة جديدة عنوانها التطبيع مع التطبيع.
لم ينتقد الفلسطينيون، بتعليمات مباشرة من عباس، السودان ولا المغرب، اللذين لحقا بالقطار، وكان ذلك بمنزلة نقد ذاتي أقرب إلى الاعتذار من الإمارات والبحرين.
بعد فجوة زمنية لم تكن كبيرة، بدأت بوادر للتطبيع مع السعودية عبر جهود نشطة وملحّة من الجانب الأميركي، ورهانات قوية من جانب إسرائيل، وخطوات بالقطّارة تحمل جديداً في الموقف السعودي التاريخي من إسرائيل، إذ لم يعد صادماً وصول وزراء إسرائيليين إلى الرياض، ولا صادماً كذلك وصف الأمير محمد بن سلمان للمحادثات الثلاثية الجارية على أنّها تحرز تقدّماً كبيراً، وهو ما عزّز الاعتقاد بأنّ أوّل الغيث قطرة.
إقرأ أيضاً: أوسلو… بعد ثلاثين سنة
تعلّمت السلطة الرسمية الفلسطينية الدرس من الموقف الانفعالي تجاه الإمارات والبحرين، فاتّجه رهانها على الثمن الذي يمكن تحصيله من التطبيع المحتمل، وإذا ما نُظر للأمر من زاوية عمليّة، فبالإمكان القول إنّ العلاقة مع السعودية بالتطبيع ومن دونه لن تُمسّ، وإنّ الجهد الذي ينبغي أن يُبذل ينصرف إلى الثمن، ويقال إنّ قائمة الطلبات الفلسطينية قُدّمت للمملكة التي وعدت بالعمل على تحقيقها.
يصلح للفصل الراهن من الرواية عنوانٌ يصف الحالة بدقّة: إنّ السلطة الرسمية الفلسطينية ككثيرين من العرب تتبنّى خطّ التطبيع مع التطبيع وأملها أن يأتي ذلك بشيء.