رسالة من السيّد إلى جورجيا ميلوني

مدة القراءة 6 د


امتهن الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله إضعاف الديمقراطية في نظامنا. أجهد أكثر المعنى الوطني للدولة وللهويّة الجامعة لأبنائها. برع في بتر الصلات مع العالم. أبدع أكثر فأكثر في تشغيل محرّكات القطيعة كلّما لاح أفقٌ لعودة الأمور إلى مسارها. ولئن صحّ أنّنا لم نُفلح في إعادة لبنان إلى ما كان عليه قبل ذات غلبة، بسبب قوى سياسية طبيعة سياساتها من نوع محلّي وبلدي، فالأصحّ أنّنا أرفقنا ذلك بكثير من تجهيل الفاعل المسؤول عمّا آلت إليه أحوال البلد وأهله.
تبدّى هذا الجهل في الصمت العميم على إطلالة الأمين العامّ للحزب الأخيرة. فالرجل لم يتكبّد حتى عناء مخاطبتنا عن أحوالنا وأهوالنا التي نعيش. ركّز جُلّ خطابه على محادثة “الغرب الشيطانيّ”. على وجه الدقّة أوروبا ودولها المتشاطئة معنا على حوض المتوسط.

“الشيطان الأكبر” و”الغرب الكافر”
بالتمام والكمال فعل السيّد. لكنّه تدرّج من مخاطبة “الشيطان الأكبر” إلى محادثة “الغرب الكافر”. في السياسة كانت كلمته “عوداً على بدء”: إجهاد النفس في إثبات الصراع مع الخارج الذي يناوئنا بالقوّة ليحول دون نهوضنا الديمقراطي وقيام الدولة عندنا. العالم عند الأمين العامّ للحزب هو من يمنعنا من انتخاب رئيس للجمهورية. والعالم كلّه اجتمع علينا ليحاصرنا اقتصادياً، وليس فسادنا الذي نهش جسدنا والتهمه قطعةً تلو أخرى. الإلحاح في الخطاب على الصراع لم يُفضِ إلا إلى التجهيل بتاريخنا السيّئ في بناء الدولة والانحياز إلى الدويلة.
قد يكون مفهوماً أن يلقى “السيد” تعاطفاً طائفياً. وحتماً من المُبرّر أن يلقى انزياحاً سياسياً إلى جانبه ضدّ اللاجئين السوريين في بلد تحكمه الحساسيات الديمغرافية والطائفية، وهو مُبرّر تزداد وطأته مع السقوط الحرّ للبلد سياسياً واقتصادياً. أمّا أن تسكت القوى السياسية لأسباب مُستقبلية في تسوية تُعقد هنا أو هناك فهو ما ليس له تبرير على الإطلاق.

التهويل باللاجئين هو عنصر أصليّ لصعود اليمين الإيطالي الذي أوصل جورجيا ميلوني إلى رئاسة الوزراء وإنزال الهزيمة بدولة كانت عمقاً لليسار على معناه الديمقراطي، وإن صاحبه لمرحلة ما تحجّر شيوعي يعود في تكوينه إلى زمن سوفياتي

هكذا خاطب السيّد العالم
في إطلالته توجّه إلى العالم بشياطينه وكفّاره. حادثهم بما يريدونه. قال لهم إنّ حاجاتهم السياسية والأمنيّة عنده وحده. أزاح البلد دولةً وشعباً، وهو مسار لم يحِد عنه يوماً. دائماً كان يضرب يميناً ويساراً. يختار العدوّ مصحوباً بصيحات التكبير. ينتقي من يريده صديقاً لكن مصحوباً بنداءات التلبية فداءً له.
هذا مفهوم أيضاً وأيضاً من شعبوية قادرة على تعطيل كلّ شيء وتحويل الجمهورية إلى شكلٍ بلا مضمون، لكن ما هو خارج السياسة وسياقاتها أن ينبري “السيّد” ليعلن أنّ كلّ شيء في هذه الجمهورية عنده وحده. في تفنيد خطابه قال:
ـ أمن إسرائيل عندي.
ـ أمن الطاقة والغاز عندي.
ـ انتخابات رئاسة الجمهورية عندي.
ـ إدارة اللاجئين عندي، وضمان عدم فتح الشطآن لهم عندي أيضاً.
ـ أمن حوض المتوسط عندي وصولاً حتى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية التي يسكنها 6 آلاف شخص ووفد إليها 10 آلاف لاجىء.

تانغو “السيّد” مع ميلوني
التهويل باللاجئين هو عنصر أصليّ لصعود اليمين الإيطالي الذي أوصل جورجيا ميلوني إلى رئاسة الوزراء وإنزال الهزيمة بدولة كانت عمقاً لليسار على معناه الديمقراطي، وإن صاحبه لمرحلة ما تحجّر شيوعي يعود في تكوينه إلى زمن سوفياتي.
في تهويل السيّد على الدول الأوروبية المتشاطئة مع لبنان بقضية اللاجئين كان ينشد نجاح ميلوني. في الرفقة أيضاً يكون أحد الشريكين القائد والآخر تابعاً. وعند الاثنين لا يكون ماضٍ ولا مستقبل. الأوّل يوجّه الدعوة للثاني في الزمالة إلى اللحاق به، لكن يبقى للأخير من خلال الانسجام الانقياد إلى هذه الجهة أو تلك.
للسيّد حقّ الاعتراف بأنّه أجاد التهويل على أوروبا. أفلح بالترهيب في ما عجزت عن تحقيقه الدبلوماسية اللبنانية منذ الحريق السوري. موالوه وأنصاره على “المنار” قالوا بالفم الملآن إنّ ترحيل اللاجئين السوريين هو أمرٌ ممكنٌ يُسراً وقسراً. وبين الأمرين على العالم أن يحاور الأمين العام للحزب.
أكثر من ذلك برع الرجل في الدخول على خطّ المزاج الأوروبي العامّ. صار بقصد أو غيره ناخباً في تدعيم الميل القومي العامّ الممتدّ من إسرائيل إلى أميركا ترامب. هذا كلّه شعبوي. وكلّه من النوع المقيت الذي يذهب إلى ادّعاءات التفوّق الحضاري وصراعاته المتأجّجة في العالم.

الأمين العام للحزب القابض على مصائر اللبنانيين ودولتهم، تناسى أنّ لبنان يضمحلّ، ولم يعد مرئياً على شاشات العالم. صار البلد جغرافيا لإقامة النازحين واللاجئين منذ ارتضى أهله التنازل عن الدولة وفكرتها ومعناها

براعة الاستخدام
عن حقّ برع “السيّد” في إضعاف ما كان اسمه “الجمهورية اللبنانية”، وفي الدخول على خطّ النزوع القومي الأوروبي الذي يعاني “الهجرة – فوبيا” و”الإسلاموفوبيا” و”العربيفوبيا”، ودلالات كثيرة في هذا الإطار يُمكن أن تُساق:
ـ في السويد تمكّن حزب “الديمقراطيين السويديين”، المعروف بمحاباته لأفكار النازيين الجدد، من اعتلاء المشهد السياسي. وكان لخطاب معاداة الهجرة دور بارز في نجاح ذلك الحزب أخيراً.
ـ في النمسا عاد المستشار اليميني سيباستيان كورتز ليؤكّد موقفه من موضوع الهجرة وإصراره على ترحيل المهاجرين بعيداً.
ـ مارين لوبان، زعيمة حزب “الجبهة الوطنية” اليميني في فرنسا، قالت سابقاً إنّها “تغرق” بفعل استمرار قدوم المهاجرين إلى بلادها، فارتفعت حظوظها الانتخابية وحضورها بين الفرنسيين.

إقرأ أيضاً: حوار الطرشان أحلى من العمى

القابض على لبنان
الأمين العام للحزب القابض على مصائر اللبنانيين ودولتهم، تناسى أنّ لبنان يضمحلّ، ولم يعد مرئياً على شاشات العالم. صار البلد جغرافيا لإقامة النازحين واللاجئين منذ ارتضى أهله التنازل عن الدولة وفكرتها ومعناها. بات نداءً للمهامّ الإنسانية والإغاثية. وعلى المؤمنين من أهله أن يتضرّعوا ألّا يؤدّي مسار “السيّد” إلى ثغرات أمنيّة يريدها هو وحزبه لاستدعاء انتباه الخارج بالعنف ما لم يستجِب الأخير سلماً.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…