قبل شهر من الذكرى الخمسين لحرب تشرين أو حرب يوم الغفران Yom Kippur war بحسب المصطلح الإسرائيلي، نشر الموساد يوم الخميس في 7 أيلول الجاري صورة لجاسوس مصري يحمل الاسم الرمزي “الملاك”. وأهمية هذا الجاسوس أنه الذي حذّر الموساد بأن الحرب على إسرائيل ستبدأ في اليوم التالي، أي في 6 تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 على الجبهتين المصرية والسورية في وقت واحد. كما نشر الموساد المحادثة التي جرت في ذلك اليوم بين رئيس الموساد آنذاك تسفي زامير والعميل المصري، الذي تبين لاحقاً أنه أشرف مروان، صهر الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر.
يؤكد الباحث الإسرائيلي يوري بار جوزف Uri Bar-Joseph، في كتابه: “الملاك، الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل The Angele The Egyptin Spy Who “Saved Israel والصادر عام 2016، أن معلومات مروان، مع أنها لم تؤخذ بما يكفي من الجدّية لدى القيادة الإسرائيلية آنذاك، لكنها أنقذت إسرائيل من الهزيمة، فبفضل الاستدعاء الجزئي للاحتياط، تمكن الإسرائيليون من إجهاض الهجوم السوري في الجولان. وفي سيناء، استوعبوا الإسرائيليون الهجوم المصري، وتمكنوا من العبور المضاد إلى الضفة الأخرى من قناة السويس ومحاصرة الجيش الثالث المصري. وخلاصة الكتاب البرهنة على أن صهر الرئيس جمال عبد الناصر لم يكن عميلاً مزدوجاً بل مخلصاً لإسرائيل.
كان السادات حريصاً على إبقاء موعد الحرب سراً عن بقية القادة العرب، ومنهم الملك فيصل المقرّب جداً منه، وأيضاً معمر القذافي الذي كان مصدر إزعاج كبير له
فيما يلي مقتبسات من كتاب “الملاك” الذي ترجمه فادي داؤد، وصدر عن مكتبة تنمية بالتعاون مع الدار العربية للعلوم ناشرون عام 2017.
ردّ الحانب المصري بالإصرار على اعتبار أشرف مروان بطلاً قومياً مصرياً، وأنّه كان عميلاً مزدوجاً خدع الإسرائيليين ومرّر لهم معلومات مغلوطة وساهم في الانتصار وليس العكس. وقد بثّت قناة “العربية” قبل أيام حلقة حوارية كاملة استضافت ممثّلاً عن الجانب الاسرائيلي، والدكتور محمد مجاهد الزيّات، المستشار في “المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية”، الذي مثّل موقف القاهرة، فأكّد أنّ أشرف مروان لم يكن عميلاً. ودليله أنّه منذ خروج هذا النقاش إلى العلن لم يُبرز الإسرائيليون وثيقةً أو مستنداً واحداً يؤكّد مزاعمهم.
لمشاهدة فيديو الحلقة كاملاً في ختام هذا المقال.
في الحلقة الرابعة رواية “إنقاذ إسرائيل”، بمعلومات “الصهر” الذي سرّب تاريخ بدء العملية العسكرية في “أكتوبر 1973” وتفاصيلها.
إخفاء ساعة الصفر
“كانت الجهود المصرية المبذولة لإبقاء موعد الهجوم سراً شاملة وفعالة بشكل ملحوظ، إذ التزموا بشدة بمبدأ “مقدار الحاجة للمعرفة”. وأحد الأمثلة على ذلك، وزير الخارجية محمد حسن الزيات، الذي لم تكن لديه أدنى فكرة بأنّ الحرب ستندلع في 6 تشرين الأول (6 أكتوبر) لأنه كان في الأمم المتحدة في نيويورك وخارج إطار الحلقة المسؤولة عن تحرّكات الجيش.
كان السادات حريصاً أيضاً على إبقاء موعد الحرب سراً عن بقية القادة العرب، ومنهم الملك فيصل المقرّب جداً منه، وأيضاً معمر القذافي الذي كان مصدر إزعاج كبير له. فإذا كان قائدا المملكة السعودية وليبيا لا يحتاجان للمعرفة، فكذلك إذاً حال الرجل في المكتب الرئاسي المسؤول عن العلاقات مع هذين البلدين.
صحيح أنّ لمروان مصادر خاصة ممتازة يمكن أن تزوّده بالمعلومات، لكن حتى هم ربما انقطعوا عنه أو احتفظوا بالمعلومات لأنفسهم. وفي حين أنّ مروان كان قد غادر مصر في 3 تشرين الأول، فلم يكن قد تبلّغ حينذاك سوى قادة وحدات المشاة على الجبهة بأنّ الهجوم سيبدأ بعد ثلاثة أيام.
في 4 تشرين الأول، طلب مروان لقاء عاجلاً عن طريق مشغّله دوبي مع رئيس الموساد تسفي زامير Zvi Zamir من أجل إبلاغه بأمر مهم. لم يكن يعلم زامير بالتطوّرات الأخيرة التي حدثت في إسرائيل، عن صور الاستطلاع الملتقطة في اليوم السابق والتي تُظهر كامل الجيش المصري على أهبة الاستعداد للحرب. كما أنه لم يكن يعرف بسلسلة الاجتماعات التي جرت في ذلك اليوم في تل أبيب، والتي تُظهر حاجة إسرائيل الملحّة لدليل واحد قوي يُؤكّد أنّ مصر وسوريا ماضيتان نحو الحرب، لكي يقوم قائد هيئة أركان الجيش بالتماس موافقة الحكومة على التعبئة العامة في يوم العيد. وعلاوة على ذلك، لم يكن زامير يعرف بأنّ تلك المعلومة قد وصلت إلى الاستخبارات العسكرية قبل ست ساعات، لكنها لم تُوجّه إلى رئيس هيئة الأركان، أو أنّ الأخير كان متوهّماً بأنّ الأجهزة المراقبة الخاصة كانت تعمل داخل مصر، وهي ليست كذلك، وأنه بنتيجة ذلك رسم صورة مضلّلة بالكامل عن الموقف قبيل الحرب.
ما لم يكن يعرفه لا مروان ولا مُشرفه الإسرائيلي، هو الاجتماع الذي عقده قبل يومين وزير الدفاع المصري مع الرئيس السوري واتفاقهما على شنّ الهجوم في الساعة الثانية عصراً، كحلّ وسط بين المتطلّبات الميدانية السورية والمصرية
مروان المتوتّر يكشف السرّ
في اللقاء الذي جمع زامير بأشرف مروان في لندن كان الأخير متوتراً. “لقد أتيت إلى هنا”، كما قال: “لأتحدث عن الحرب، ولا شيء آخر. لقد تأخرت لأني أمضيت المساء بأكمله في قنصليتنا في كنسينغتون (لندن). كنت على اتصال مع القاهرة، محاولاً الحصول على أحدث المعلومات. إنه (السادات) ينوي شنّ الحرب غداً”.
من الطريقة التي عبّر بها مروان عن نفسه فيما بعد، يمكن للمرء أن يشعر أنه كان يعتقد بأنّ الإسرائيليين كانوا على علم بذلك. كان الاقتناع السائد لدى المصريين أنّ الإسرائيليين سيعرفون بأمر الهجوم قبل يومين كاملين منه. لكن من الوارد أيضاً أنه كان يحاول أن يتحاشى حقيقة أنه – بالرغم من تقديمه نفسه كمصدر إلهام لكل المعلومات التي تستحق معرفتها عن مصر – لكنه هنا الآن، قبل أقل من أربع وعشرين ساعة على الهجوم، ولم يعرف بأمره إلا قبل بضع ساعات.
تملّكت زامير الدهشة. لقد أتى إلى الاجتماع وكله قلق لأنّ آخر المعلومات التي لديه، وخاصة عن الانسحاب السوفياتي من مصر، تشير كلها إلى أنّ مصر وسوريا متجهتان للحرب. لكنه لم يكن يتخيّل أبداً أن الهجوم سيكون بعد أقل من أربع وعشرين ساعة. كما كان قلقاً أيضاً من احتمال أن يكون هذا التحذير، كما غيره من التحذيرات السابقة، مجرّد إنذار كاذب. لذلك كان ردّه الفوري هو: “على ماذا تبني تأكيدك؟”.
عدم الارتياح الذي كان يشعر به مروان لم يساعد على تهدئة روع زامير، وأدرك بسرعة أن عليه الاعتماد على خبرته الشخصية، مع أنه لم يكن معتاداً على إعطاء رأيه الشخصي. أما زامير الذي لم يكن يعرف ماذا حدث في إسرائيل منذ مغادرته إلى لندن، لكن ليس لديه ما يدفعه للاعتقاد بأنه قد تمّ بالفعل استدعاء قوات الاحتياط، أدرك أن تحذيراً واضحاً من اندلاع الحرب في اليوم التالي لن يترك أمام صانعي القرار أي بديل سوى التعبئة العامة الطارئة.
هكذا، مع أنه رئيس الموساد وليس رئيسة الوزراء وحكومتها، شعر أن مسؤولية قرار الحكومة بأكملها ملقى على عاتقه. لكن زامير كان أيضاً جنرالاً سابقاً وخدم كقائد للمنطقة الجنوبية في الجيش، ويعرف تماماً ماذا يعني صدّ هجوم عربي من دون استدعاء قوات الاحتياط. قريباً من نهاية الاجتماع، كان رئيس الموساد قد اتخذ قراره. سوف يرسل إلى إسرائيل تحذيراً صريحاً بأنّ مصر وسوريا تنويان شنّ هجوم كامل في اليوم التالي. هذا القرار كان كفيلاً بتغيير مجرى أحداث حرب تشرين/أكتوبر.
كيف تبدّلت ساعة الصفر؟
وجّه زامير سؤالاً محدّداً إلى مروان أيضاً عن ساعة الهجوم بالضبط (ساعة الصفر)، لكنه لم يتعامل معها كسؤال ضاغط. في جميع خطط الحرب المصرية التي اطّلعت إسرائيل عليها منذ سنين، كانت ساعة الصفر دائماً عند غروب الشمس، وهو توقيت فيه شيء بسيط من ضوء النهار يسمح بالقيام بهجوم جوي على سيناء قبل أن يحلّ الظلام الذي سيمنع سلاح الجو الإسرائيلي من القيام بردّ فعّال. وبحسب تقرير مروان، ستكون الخطة كذلك هذه المرة أيضاً. في 6 تشرين الأول 1973 كان موعد غروب الشمس هو 5:20 مساءً بتوقيت إسرائيل.
لكن ما لم يكن يعرفه لا مروان ولا مُشرفه الإسرائيلي، هو الاجتماع الذي عقده قبل يومين وزير الدفاع المصري مع الرئيس السوري واتفاقهما على شنّ الهجوم في الساعة الثانية عصراً، كحلّ وسط بين المتطلّبات الميدانية السورية والمصرية.
كان أشرف مروان المسؤول الوحيد عن تمكين الإسرائيليين من منع السوريين من السيطرة على مرتفعات الجولان في حرب تشرين
لولا تحذير مروان..
على الرغم من الجهود الكثيرة التي بذلها المؤرخون والضباط المتقاعدون لإعادة تصوير معارك الأيام الأولى من حرب تشرين، يبقى سؤال لم يُطرح إلا نادراً وهو: “ماذا كان سيحدث لو لم يصدر أمر استدعاء قوات الاحتياط عند العاشرة صباحاً من يوم السبت وتأجيله لحين اندلاع الحرب بعد أربع ساعات، أي عند الثانية ظهراً؟”.
بمعنى آخر: “ماذا لو لم يُحذّر أشرف مروان زامير من الحرب، ولم يوقظ زامير مساعده فريدي عيني Freddy Eini من النوم، ولم يستيقظ صُنّاع القرار الإسرائيليون عند الرابعة والنصف فجراً ويبدؤوا الاجتماعات عند السادسة صباحاً، ولم تتغلّب موافقة رئيسة الوزراء عند الساعة 9:45 صباحاً على رفض وزير دفاعها لقرار الاستنفار العام لكل قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي؟”.
لقد تلقّى قائد اللواء المدرع 679، يوري أور، أوامره من قائد الفرقة المدرعة 36 عند العاشرة صباحاً. أصبح أور فيما بعد قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي. وبعد تركه الجيش أصبح نائب وزير الدفاع الإسرائيلي. بحسب تقديراته، لولا تحذيرات مروان لما استطاع الإسرائيليون استدعاء وحدات الاحتياط إلا بعد أربع أو ست ساعات في الحدّ الأدنى. ولكان سقط تقاطع نفح في الجولان، وأيضاً معسكر قيادة الوحدة المدرعة 36 من دون قتال. والاحتمال الأكبر أيضاً أنّ السوريين كانوا سيتمكّنون عصر يوم السبت من تطويق خطوط الإمداد وقطعها بالكامل عن اللواء المدرع السابع الذي كان متمركزاً شمال شرق الجولان. وقد وصل دارسون آخرون للخلاصة نفسها.
بالعودة بالزمن إلى الوراء، يتضح أن أشرف مروان كان المسؤول الوحيد عن تمكين الإسرائيليين من منع السوريين من السيطرة على مرتفعات الجولان في حرب تشرين. واستعادة الجولان بعد ذلك، كان سيتطلّب ليس فقط معركة طويلة مريعة إنما أيضاً توجيه قوات كبيرة من الجبهة المصرية، ما سيزيد من احتمال ضغط مصري هجومي في الجنوب.
لم تكن خسارة الإسرائيليين ستقتصر على عدد أكبر بكثير من الضحايا، بل كانت خسارتها ستكون كبيرة أيضاً على مستوى الحدود عندما طُلب وقف إطلاق النار. وعلى الجبهة الشمالية، كان “التعادل”، في الحدّ الأدنى في نهاية الحرب سيبدو أقرب بكثير إلى هزيمة إسرائيلية.
إقرأ أبضاً: 1971: خطط عبور القناة… في مكتب الموساد
إنقاذ قيادة الجيش الإسرائيلي
هناك أيضاً لحظتان حاسمتان استفادت منهما إسرائيل كثيراً من مساعدة “الملاك”. ففي الدقائق الأولى من الحرب، قامت قاذفات توبولف Tu-16 “الغرير” المصرية المنطلقة من الجنوب الغربي بإطلاق صاروخي جو – أرض من نوع كيلت Kelt باتجاه تل أبيب. وبحسب خطط الحرب المصرية، كان هذان الصاروخان موجّهين مباشرة إلى مقرّات قيادة الجيش الإسرائيلي، بمثابة تحذير للإسرائيليين بعدم مهاجمة عمق الأراضي المصرية، كما فعلت في حرب الاستنزاف. انطلقت من قاعدة حاتسور الجوية الإسرائيلية مقاتلتا ميراج، فيما بدا ظاهرياً كأول طلعة حربية في الحرب، لاستطلاع البحر المتوسط بالقرب من عسقلان، جنوب غرب تل أبيب. لكن في لحظة معيّنة، تلقّتا تعليمات بالاستدارة غرباً، مباشرة نحو القاذفتين المصريتين، وحين اقتربتا رأتا لهيب الصاروخين المنطلقين. تلقّى الرائد إيتان كرمي Eitan Karmi، قائد الطائرة الأمامية، أمراً بضرب الصاروخين وليس القاذفتين. على ما يبدو، سقط أحد الصاروخين في البحر، بينما استهدف رشاش كرمي الصاروخ الآخر، وهوى في الماء مباشرة عند شاطئ تل أبيب. كانت دوّامة هائلة من الماء قد ارتفعت للأعلى.
كشفت خطط الحرب التي نقلها مروان صراحة عن نية إطلاق مثل هذه الصواريخ على تل أبيب. وبدون تلك المعلومات لكان الصاروخ الثاني، المزوّد بطنّ من المتفجّرات، قد سقط على الأرجح وسط تل أبيب. ولكان تأثير ضربة كهذه ذا وقع هائل، سواء على الروح المعنوية للجمهور الإسرائيلي أو على منحى تطوّر الصراع”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@