“وحدة الأولويات”… مقابل “وحدة الساحات”

مدة القراءة 7 د


ترجمت إيران معاييرها لوحدة الساحات من خلال مواكبتها ودعمها العملية العسكرية التي نفّذتها حركة حماس ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وهي عملية نوعية بكلّ المقاييس، عملت طهران منذ فترة على التخطيط لها مع حلفائها في محور المقاومة، لا سيما “حماس” و”الجهاد الإسلامي” والحزب. وفي المقابل، يمكن أن تشكّل تلك الضربة فرصة تاريخية للدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية في إطار تثبيت معادلة “وحدة الأولويّات”. وهذه الوحدة كلٌّ لا يمكنه أن يتجزّأ في ما يتعلّق بالأمن القومي العربي الذي يرتبط بشكل مباشر بالمملكة وبالدول العربية الأخرى وأوّلها مصر.

 تأتي عملية “طوفان الأقصى” في لحظة مصيرية في تاريخ منطقة الشرق الأوسط. ويمكن لها أن تؤسّس لتغيير المسار والانتقال إلى مرحلة جديدة. هي مرحلة فيها خياران:

الأوّل هو استمرار القتال والنضال والصراع بدون الوصول إلى حلّ شامل أو جذري كما هو الحال القائم منذ عام 1948.

والثاني هو الاستفادة من كسر هيبة إسرائيل وشوكتها انطلاقاً من نتائج العملية العسكرية، والذهاب إلى وضع مسار جديد يفرض عليها الحلّ وتقديم التنازلات، للعودة إلى المبادرة العربية للسلام وحلّ الدولتين.

ترجمت إيران معاييرها لوحدة الساحات من خلال مواكبتها ودعمها العملية العسكرية التي نفّذتها حركة حماس ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وهي عملية نوعية بكلّ المقاييس، عملت طهران منذ فترة على التخطيط لها مع حلفائها في محور المقاومة

يبقى مسار المعركة مفتوحاً على احتمالين أيضاً:

– إمّا أن تكون بمفاعيلها السياسية والعسكرية قابلة لتكرار ما يشبه تجربة حرب أكتوبر 1973.

– وإمّا أن يتّجه المسار نحو ما يشبه الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في عام 1982.

ضدّ التطبيع.. وفي لحظة ضعف

لكلّ احتمال مؤيديون داخل فلسطين، وداخل إسرائيل، في المنطقة العربية وفي العالم. من هنا لا بدّ من اللجوء إلى عقل بارد في الإضاءة على بعض جوانب ما جرى.

أوّلاً: جاءت عملية طوفان الأقصى في ظلّ أكبر أزمة سياسية واجتماعية وأمنيّة وعسكرية تعيشها إسرائيل في تاريخها نظراً إلى حال الانقسامات القائمة والتظاهرات التي حصلت وكادت أن تؤدّي إلى حرب أهلية. هنا تتكاثر التقديرات والاحتمالات لِما جرى من فشل أمنيّ وعسكري واستخباراتي إسرائيلي مكّن المقاومة من تحطيم كلّ منظومة الدفاع واختراق الجدارات الأمنية ونقل المعركة إلى الداخل الإسرائيلي.

وهذا يعيد نقاشات كثيرة داخل إسرائيل إلى ما جرى في عام 1973، عندما لم تتعامل تل أبيب بجدّية مع معلومات استخبارية عن استعداد الجيشين السوري والمصري للدخول في حرب العبور.

صحيح أنّ الجزء الأوّل من تلك الحرب حقّق فيه العرب نصراً كبيراً، لكن فيما بعد تمكّنت إسرائيل من فتح دفرسوار “القاهرة” الذي قام به آرييل شارون، والتوسّع من خلال السيطرة على مزيد من المساحة التي احتلّتها في الجولان في حرب الـ67. عملياً قادت الحرب إلى تفاوض مع مصر أوصل إلى اتفاق كامب ديفيد.

ثانياً: جاءت عملية طوفان الأقصى في ظلّ توتّرٍ في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وفي ظلّ تعارضٍ كبيرٍ بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو والرئيس الأميركي جو بايدن. وهو توتّر مستمرّ منذ تولّي باراك أوباما رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، علماً أنّ العلاقات بين نتانياهو والرئيس الأسبق دونالد ترامب اتّخذت منحى أفضل.

بالعودة أيضاً إلى 1973، استغلّ وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر الانكسار الإسرائيلي في الأيام الأولى من الحرب للدخول والضغط في سبيل فتح باب التفاوض الجدّي على الانسحاب من الأراضي التي احتلّتها إسرائيل في عام 1967، وهو الذي صاغ عملية السلام. يمكن لذلك أن يتكرّر في هذه اللحظة أميركياً، وعربياً أيضاً.

ثالثاً: جاءت العملية في ظلّ اقتراب مسار التفاوض السعودي الإسرائيلي برعاية أميركية إلى مرحلة الدخول في اتفاق تطبيع، فأُريد للعمل العسكري قلب الموازين، وهو عبارة عن رسالة سياسية إيرانية في سبيل القول إنّ طهران هي صاحبة اليد العليا في المنطقة، خصوصاً في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية.

لكن يمكن أن يشكّل ذلك فرصة لأجل استعادة العرب لزمام المبادرة بالكامل، بالرهان على تلك العملية وانكسار شوكة الإسرائيليين وإمكان إملاء الشروط وفرض التنازلات على تل أبيب وإجبارها على تقديم نموذج مختلف جذرياً عن الوزيرين المتطرّفين في حكومة نتانياهو، إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، وكلّ هذا الجنون، لا سيما أنّ هذه الحرب ستؤدّي إلى إجبار إسرائيل على تغيير كلّ مقارباتها وجنونها المتطرّف إذا ما أرادت الاستمرار والبقاء.

جاءت عملية طوفان الأقصى في ظلّ توتّرٍ في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وفي ظلّ تعارضٍ كبيرٍ بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو والرئيس الأميركي جو بايدن

التهجير والانتقام

رابعاً: إسرائيل بالارتكاز على الدعم الدولي والغربي لها، بعد محاولات تصوير حركة حماس والفلسطينيين ككلّ بأنّهم إرهاب، وأنّهم حالة مشابهة لتنظيم داعش، ستحاول السعي إلى تنفيذ عمليات عسكرية جوّية وبرّية عنيفة تحاكي الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في عام 1982، وسيكون الهدف ضرب البنية العسكرية لحركة حماس، وتهجير أكبر قدر من السكان، وتنفيذ عمليات اغتيال بحقّ قياداتها وقيادات “الجهاد الإسلامي”، وبالتالي تكريس وضع جديد في غزّة، لكنّ ذلك يمكن أن يؤدّي إلى إشعال المنطقة، وإطالة أمد الصراع أكثر وتأبيده، بدون توافر أيّ مقوّمات للتهدئة أو البحث عن حلول. وهذا ستتحمّل مسؤوليّته إسرائيل ولا أحد غيرها، خصوصاً أنّها تحوّلت منذ سنوات من مجتمع مقاتل بشكل فعليّ إلى مجتمع استهلاكي، وهو ما أدّى إلى إنهاء عصر الجنرالات المقاتلين فيها.

خامساً: منذ اتفاق أوسلو، ونجاح ياسر عرفات في بناء دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية، وإسرائيل تقدّم نماذج الجنون والتطرّف والإرهاب، من اغتيال رئيسها إسحاق رابين، إلى اعتماد سياسة توسيع الاستيطان التي أدّت لاحقاً إلى انفجار الانتفاضة.

بعدها، طُرحت المبادرة العربية للسلام في قمّة بيروت، وقد ارتكزت على حلّ الدولتين، الذي أجهضته إسرائيل حتى الآن. ووصل الأمر حدّ دخول المنطقة مجدّداً في مسار التطبيع من خلال عقد الاتفاقات الإبراهيمية مع بعض الدول العربية. لكنّ تل أبيب لم تقابل العرب إلا بالمزيد من التعجرف والعنجهية مع عدم الاستعداد لتقديم أيّ تنازل، وهو ما أدّى أخيراً إلى عملية طوفان الأقصى التي تمثّل أكبر ضربة عسكرية واستراتيجية للمشروع الإسرائيلي ولِما يسمّى “الحفاظ على بنية الكيان والدولة”.

سادساً: ستسعى إسرائيل إلى انتهاز الضربة القاسية التي تلقّتها لتنفيذ عمليات انتقامية واسعة تهدف من خلالها إلى إحياء شياطين أحلام وخطط قديمة تتعلّق بتهجير الغزّيّين إلى صحراء سيناء، والقيام بالمزيد من عمليات التهجير في الضفّة الغربية للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة و”تنظيفها”. هنا تكمن الفرصة العربية التاريخية في منعها من القيام بذلك، والتقاط اللحظة في سبيل ممارسة المزيد من الضغوط العسكرية والأمنية والسياسية في سبيل إعادة الاعتبار لحلّ الدولتين.

“وحدة الأولويات” 

انطلاقاً من هذا المبدأ، لا بدّ من العودة إلى “وحدة الأولويات”، تلك الأولويات التي ترسم معالمها في منطقة الشرق الأوسط وعلى الساحة العالمية المملكة العربية السعودية، التي تريد الوصول إلى مرحلة من تصفير المشاكل في المنطقة، وإنهاء الصراعات فيها وفتحها على أبواب التقدّم والاستثمار والحداثة. وهو منطق الضدّ لمعادلة “وحدة الساحات” التي تريد إبقاء المنطقة في أتون الصراع.

إقرأ أيضاً: لماذا نفت إيران علاقتها بـ”طوفان القدس”؟

إنّها فرصة عربية بلا شكّ للارتكاز على قوّة الفلسطينيين وبأسهم في مواجهة الاحتلال وسياسة الاستيطان وتغذية الصراعات الدينية والعنصرية والقومية التي لطالما واجهتها المملكة ومحور الاعتدال في المنطقة، انطلاقاً من مواجهة “القاعدة” و”داعش” و”النصرة” ومتفرّعاتها، وانطلاقاً من رفض الدخول في صراع سنّيّ شيعي تحاول طهران تغذيته. فهذا مسار لا يختلف عن تلك المسارات.

يمثّل الموقف السعودي الصورة الأفضل والتوازن الأمثل في مواكبة الأحداث، ويمكن أن يفتح مسارات المرحلة المقبلة، وفق قاعدة واضحة تقوم على استحالة استمرار إسرائيل وفق هذا النموذج، وضرورة الذهاب إلى التنازل عن التعجرف والعنجهية.

أمّا من الجهة المقابلة، فإعادة احتضان السعودية للفلسطينيين، وحركة حماس ضمناً، من شأنها أن تُبقي القضية الفلسطينية في حضنها وعهدتها، لتثبيت معادلة “وحدة الأولويّات”.

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…