الدولة الوطنية… وصفةً دائمة لـ”الهزيمة”

مدة القراءة 6 د


ما جرى ويجري في فلسطين اليوم باعث على الأمل، بتوازن ما بين الفلسطينيّين والإسرائيليين. ما بعده لن يكون حتماً كما قبله. ما قامت به حركة المقاومة الإسلامية حماس في غلاف غزّة ضربٌ من خيال، خيال صار واقعاً. في أيّام العرب، لا يُحصى القتلى ولا تُعدّ الخسائر.

أيّام العرب إمّا تكون لهم أو تكون عليهم. الباقي تفاصيل. نُكبنا في 1948. نُكسنا في 1967. عبرنا في 1973. واحتُلِلنا في 1982. ثمّ انتصرنا في 2000 و2006 وننتصر اليوم في غزّة. أمّا ما ذقنا وما علمنا، فلا باب له إلى شعرنا، ولا إلى أيّامنا. ما قامت به “حماس” نصرٌ مهما بلغت نتائجه وتبعاته. ثمّة معادلة قُلبت رأساً على عقب. ثمّة ضحيّة اليوم تؤنّب جلّادها، وتخرج إليه وتسجنه خارج القضبان.

يبدأ ردّ الاعتبار للسياسة من دعوة السعودية إلى العودة إلى هذه المبادرة وحلّ الدولتين. وردّ الاعتبار يتطلّب ألّا نتحوّل إلى وحوش ونحن نحارب الوحش. والوحش في حالتنا هي إسرائيل

الدولة الوطنيّة.. التقوقع مقتَل

تأخُّر النصر لعقود جعل من الهزيمة مرارةً يوميّة. التعثّر المديد كانت أفضاله نتاج العسكريتاريا العربية التي تبنّت “لا شعار يعلو فوق شعار المعركة”. هذه الأنظمة قدّمت نفسها على أنّها العروبة. أساءت بقصد أو غيره للعروبة.

لكن متى كانت الهويّة العربية تتعارض وبناء الدولة الوطنية الحديثة؟

كان تبريرها أنّها تريد بناء دولٍ وطنية “قادرة عسكرياً” على مواجهة إسرائيل.

لكن منذ متى كان بناء الدولة الوطنية يتعارض مع استعادة الحق؟

من قال إنّ بناء دول عربية حديثة يقتضي تقوقعها داخل حدودها، وتباعدها وانقسامها والتدخّل في شؤون غيرها، بدلاً من صياغة سياسات خارجية واقتصادية مشتركة من ضمن نظام المصلحة والهويّة العربيّتَين؟

التقوقع مقتَل. وهو لا يبني دولاً حديثة، بل جغرافيا سياسية محميّة إلى حين. ولا ينمّي اقتصادات ضخمة من دون سياسات خارجية.

ها هو الغرب برمّته، ومن ضمنه الدول الأوروبية، استطاع بناء دول حديثة والاهتمام والتفرّغ لقضاياه الداخلية، من دون أن يغيب عن المشهد. معدّلات النمو عنده أعلى بما لا يقاس، وفق أيّ وحدة قياس عندنا. التطوّر الإلكتروني والمابعد صناعي عنده نحتاج نحن لتلمّسه إلى سنوات ضوئية. هذه الدول، منذ زمن وإلى اليوم، ما تزال حاضرةً على مستوى العالم بفاعلية أشدّ تأثيراً منّا. صار عندها الحلف الأطلسي – الناتو. تقود العالم ونحن منه صعوداً وهبوطاً، يميناً ويساراً.

إدارة ظهر الدول العربية بعضها لبعض يعني انهيارات لاحقة في السياسة والدفاع والاقتصاد. مصر التاريخية لم تخسر يوماً حرباً خاضتها خارج حدودها. كانت تخسر على أرضها فقط. إسرائيل بحروبها على الدول العربية كانت تتلو علينا الإدراك المصري غابراً عن غابر. نصر المقاومة الفلسطينية حتى الساعة يجب ألّا يلغي أبداً وجوب ردّ الاعتبار للسياسة. أدوات السياسة هي في الإشتغال مع الخارج لا صمّ الآذان بالسيادة الوطنية. الانكفاء والانسحاب من السياسة الخارجية هما المقتلة بعينها، ولو بعد حين. ضرورة ردّ الاعتبار للسياسة تمليه الآن اللحظة الفلسطينية العربية.

نصر المقاومة الفلسطينية ستتنطّح له إيران. تحاول وضع يدها عليه، كما وضعتها على ملفّات وقضايا شائكة في البلدان العربية، بل على بلدان عربية أيضاً. بصمات إيران حاضرة في ما يجري في الداخل الفلسطيني

العروبة ليست عاراً.. لماذا الإدانة؟

من أضعف العروبة وجعلها عاراً؟

من قال إنّ العروبة هي تقوقع وليست هويّة حضارية قادرة على هضم التنوّع؟

مِن رحِمها خرج وعي الحداثة وما بعدها، ثقافياً على الأقلّ.

فمن وضعها في شعارات لم تنفع يوماً وهيهات تنفع الآن في ظلّ السرقة الإيرانية الموصوفة للقضية الفلسطينية؟

ما كان لعملية السطو هذه أن تتحقّق لو أنّ العروبة حاضرة على معناها الحضاري لا الانعزالي. النأي بنا عن كلّ قضايا العروبة أذاقتنا الأمرّين. المقاومة والتصدّي للعدوان لا يلغيان الإعمار والبناء وبلورة شخصية سياسية وطنية في القضايا كافّة، داخلياً وخارجياً وبين ذوي القربى، خاصّةً تلك التي تعنينا منها وتنعكس علينا سلباً أو إيجاباً.

المقاومة لا تلغي السياسة، فهي في الأصل سياسة. الإنماء والإعمار وبناء دولة حديثة تستطيع الدفاع عن قضاياها، سياسة أيضاً. من قال إنّنا لا نستطيع التوفيق بين المحاور والأقطاب، ونتلافى حروباً ونفرض معادلات وتوازنات؟

لماذا دائماً اقتصاد أو مقاومة؟

الانكفاء العربي عن الساحة الفلسطينية والقضية الفلسطينية لا يخدم أحداً. ما جرى ويجري في غزّة انتصار للجميع، وهزيمة لإسرائيل وحدها. العرب في المحاور كلّها وعلى أيّ ضفة وقفوا مستفيدون. الكلّ قويت أوراقهم. ما جرى يُبنى عليه موقف عربي بالإجماع وبحدّ مقبول. في لبنان استطعنا. ثنائية المقاومة والإعمار، نجحت إلى حد بعيد. هذه الثنائية ضُربت في العمق باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ما جرى لاحقاً قصم ظهر الوطن.

لا يروم كلُّ هذا شعارَ “أهلاً بالمعارك”. الدولة الحديثة، القويّة والعادلة، التي وحدها في المعارك وخارجها، تستطيع أن تحارب وأن تسالم وأن تُبرم المعاهدات وتكون ضمانةً لها.

عادة إيرانيّة قديمة

نصر المقاومة الفلسطينية ستتنطّح له إيران. تحاول وضع يدها عليه، كما وضعتها على ملفّات وقضايا شائكة في البلدان العربية، بل على بلدان عربية أيضاً. بصمات إيران حاضرة في ما يجري في الداخل الفلسطيني. لا التباس في ذلك. حضورها في خلفيّة المشهد واضح وجليّ. لكنّ ما يجري ليس صنيعاً إيرانياً. ما يجري ثمرة استقلال نوعاً ما في القرار الفلسطيني.

لم يعُد الفلسطينيون لقمةً سائغةً يتقاسمها الجميع، أو مائدةً كلّ دولة لها فيها طبق أو اثنان أو أكثر. الفلسطينيون اليوم يبادرون. هم من خطّط بذكاء وشجاعة، ووضع التوقيت بدقّة، ونفّذ وينفّذ بحِرفية عالية.

في السياسة كانت “حماس” مع إيران في مواقف ومراحل معروفة، وكانت ضدّها أيضاً في أماكن وملفّات وقضايا أخرى، وأبرزها سوريا.

إقرأ أيضاً: هل من مخرجٍ من هذه الحرب الأبديّة؟

كلّنا مربَكون

إسرائيل حتى اللحظة مربَكة. لم تستفِق إلى الآن من هول الصدمة. الجيش الإسرائيلي لم يستعِد بعد زمام الأمور. ما تزال المقاومة الفلسطينية تفاجئه. قد تأتيه مفاجآت من جبهات أخرى. ربّما ما تزال “حماس” تُخفي في جعبتها المزيد، المزيد الذي يُربك الجميع، حتى نحن. ما جرى كان صدمةً لنا، مفاجأةً. نحن أيضاً مربَكون. من أصغرنا حتى رأس الهرم، ومن المحيط إلى الخليج.

ما جرى ويجري في فلسطين ما كان يخطر على بال ولا في حلم. نحتاج إلى وقت لنستوعبه، لكنّ الأحداث تتطوّر بسرعة، وعلى نحو يفاجئ الجميع. لا بدّ من إعادة تقويم الموقف. لا بدّ من النظر إلى الأمور بمنظار مختلف. لا بدّ للحضور العربي أن يكشّر عن أنيابه، وألّا يستمرّ في الحضور على شكل أوراق نقدية تسدّ رمقاً لكنّها لا تغني من جوع.

ألا تبدو الآن المبادرة العربية للسلام التي أطلقتها المملكة العربية السعودية من بيروت، أقوى وأقرب من ذي قبل إلى أرض الواقع والسياسة والاقتصاد وكلّ المجالات؟

يبدأ ردّ الاعتبار للسياسة من دعوة السعودية إلى العودة إلى هذه المبادرة وحلّ الدولتين.

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…