في الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، تكبّد جيش الاحتلال خسائر كبرى وخرج منكسراً بفعل “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية – جمّول” والمقاتلين الفلسطينيين. وكما حصل في بيروت، ها هي غزّة عصيّة على الانكسار بوجه الجيش الإسرائيلي، لا بل تسجّل انتصاراً عسكرياً مخابراتياً من الدرجة الأولى، وتقول للجيش الإسرائيلي إنّ “غزّة هي مقبرة أيّ جيش يدخلها”.
هكذا يستعيد الرجل الذي واكب مرحلة الثمانينيات من على يمين بشير الجميّل، وصولاً إلى اليوم، واصفاً غزّة بـ”مقبرة غزاتها”. كريم بقرادوني الذي رافق تلك الحقبة، يقول إنّ خسائر إسرائيل في حال قرّرت الغزو البرّي للقطاع الفلسطيني المُحاصّر، ستكون أكبر بكثير من كلفة غزوها بيروت في الثمانينيات من القرن الماضي. لكنّه يرى في المقابل في كلّ هذه الأحداث فرصة فلسطينية لتحقيق ما عجز اتفاق أوسلو عن تحقيقه: السلام والدولة الفلسطينية.
“حماس” تفرض الاعتراف بها
في مقارنة بين الأمس واليوم، بعد عدوان “عناقيد الغضب” على لبنان في عام 1996، انتزع الحزب من العالم اعترافاً بحقّه في المقاومة من خلال “تفاهم نيسان”، ثمّ سجّل مع السنوات تقدّماً في صراعه مع إسرائيل، إثر انسحابها من معظم الأراضي الجنوبية في عام 2000.
تستعيد “حماس” اليوم السيطرة على القرار الفلسطيني بعدما فشلت “فتح” في فرض شروط السلام، على الرغم من رفع “حماس” شعار “فلسطين من النهر إلى البحر”
اليوم أنجزت حركة حماس معموديتها النوعية الأولى منذ خمسين عاماً، أي منذ حرب تشرين 1973. يقول ممثّل حركة حماس في لبنان علي بركة في هذا الصدد إنّ “حماس” لم تبلغ حلفاءها بساعة الصفر، بل أبلغتهم بعد بدء العملية، مناشداً الحلفاء مساندة “حماس” متى تحين الساعة. عليه، غيّرت الحركة في عمليّتها الأخيرة المعادلة.
بقرادوني يرى أنّ “حماس” تستطيع أن تفرض، بغضّ النظر عن مصير هذه المعركة، إنجازات ضخمة من شأنها أن تؤثّر على شكل الصراع، ومن بينها إخراج كلّ المعتقلين في السجون الإسرائيلية بعدما نجحت في أسر حوالي 100 إسرائيلي حتى الساعة، ويمكنها التفاوض على فكّ الحصار عن القطاع المحاصَر منذ سنوات، والبدء بمفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل للاعتراف بدولة فلسطين.
المبادرة العربيّة للسلام: بين فتح وحماس
قبل قمّة بيروت في عام 2002، أعاد الأميركيون طرح نموذج “حلّ الدولتين” ليكون حلّاً للصراع العربي الإسرائيلي. غير أنّ الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز طرح في القمّة العربية في بيروت “المبادرة العربية للسلام” التي توصي بحلّ الدولتين ممرّاً لـ”الأرض مقابل السلام”.
وافق العرب والسلطة الفلسطينية وسورية، لكنّ تطبيق الحلّ لم يكن وارداً، بفعل إسقاط إسرائيل اتفاق أوسلو، الموقَّع في عام 1993، عبر ممارساتها واستمرارها في خرق شروط الاتفاق، وذلك على وقع الانتفاضة الثانية التي اندلعت بين عامَي 2000 و2005.
تستعيد “حماس” اليوم السيطرة على القرار الفلسطيني بعدما فشلت “فتح” في فرض شروط السلام، على الرغم من رفع “حماس” شعار “فلسطين من النهر إلى البحر”.
“لكن هل تكون هذه العملية تمهيداً لمفاوضات غير مباشرة تشارك فيها “حماس” مع السلطة الفلسطينية للاعتراف بدولة فلسطين وتطبيق المبادرة العربية للسلام؟”.
سؤال يطرحه بقرادوني قائلاً إنّها فرصة حقيقية تحظى بها القضية الفلسطينية الواقفة على مفترق طرق مفصليّ في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. يقود كلام بقرادوني هذا إلى بيان وزارة الخارجية السعودية بعد الأحداث الأخيرة، ويتضمّن موقف وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان: “حلّ الدولتين” هو الممرّ الإجباري للتطبيع.
إقرأ أيضاً: إسرائيل تهتزّ والسعودية تلتزم حل الدولتين..
التطبيع.. مستفيداً من الحرب
يدرك كلّ مراقب أنّ هذه العملية النوعية تأتي اعتراضاً على مسار التطبيع، لكنّها في الواقع قد لا تنجح في إيقاف القطار، بل في حرف مساره، وخدمته إيجاباً، باتجاه تحقيق مزيد من المكاسب لقضية فلسطين، وباتجاه أن تكون ورقة قوّة لكلّ من يطالب بتحقيق حلّ الدولتين ممرّاً للسلام في المنطقة لا العكس. وذلك على الرغم من ممارسة الإسرائيليين حرب إبادة انتقامية في غزّة منذ أيّام، بقصفهم منشآت مدنية وطبية وتعليمية.
قال رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو أمس إنّ ردّ إسرائيل على حماس “سيغير الشرق الأوسط”. الواقع أنّ ما قامت به وما ستردّ به إسرائيل سيحدّد فعلاً مصير القضية ومسارها في الشرق الأوسط. فهل ستتم تصفيتها؟ أو ستذهب المفاوضات بها إلى حلّ عادل وشامل؟
يصعب على المرء التقدير في زحمة الأحداث… لكن الجواب قد لا يكون بعيداً جداً.
لمتابعة الكاتب على تويتر: josephinedeeb@