العملية العسكرية التي قامت بها أذربيجان والتي أدّت إلى استسلام الانفصاليين الأرمن في إقليم ناغورنو كاراباح، لن تكون خاتمة الصراعات في جنوب القوقاز الذي يحظى بميزات جيوسياسية كبيرة.
استعادت أذربيجان سيادتها على هذا الإقليم، وكشف الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف عن أهمّ الثمار السياسية التي يسعى إلى قطفها بمباركة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ودعمه، وهي انتزاع موافقة أرمينيا على تحقيق الممرّ البرّي: “ممرّ زنغيزور”، الذي يمرّ في جنوب الأراضي الأرمنية ويربط أذربيجان بتركيا عبر “مقاطعة نخجوان” التي تتمتّع بالحكم الذاتي.
ما تزال إيران تعارض مشروع الممرّ من أساسه، إذ اعتبرت أنّه سيؤدّي إلى ربط تركيا بآسيا الوسطى، ويعزل إيران عن أرمينيا والمحيط الأوراسي. وسيؤدّي إلى تطويقها من الشمال.
القصف الأذربيجاني لجنوب أرمينيا في أيلول من عام 2022 على خلفيّة رفض رئيس الحكومة الأرمنية نيكول باشينيان السماح لأذربيجان بأن يكون لها “ممرّ” عبر الأراضي الأرمنية، كان بمنزلة رسالة إلى كلّ من أرمينيا وإيران بإمكانية استخدام القوة لإنشاء الممرّ.
ردّت إيران على هذه الرسالة بمناورات على حدودها الشمالية لتأكيد رفضها أيّ تغيير على هذه الحدود مع أرمينيا. روسيا صاحبة النفوذ الكبير في المجال الأوراسي تبدو على عتبة تحوّلات كبيرة في خياراتها الجيوسياسية في هذه المنطقة، إذ لولا الضوء الأخضر من الكرملين لما تحقّق هذا النصر المبين لأذربيجان.
بوتين يبدّل أولويّاته
بالطبع يكتسب هذا الممرّ أهمية بالغة في تقاطعات الجغرافيا السياسية في المجال الأوراسي بين كلّ من روسيا، تركيا، إيران، أرمينيا وأذربيجان. إذ إنّ تبدّل أولويات روسيا ونشوء ميزان قوى جديد في كاراباخ يطرحان من جديد تحدّيات هائلة على هذه الجغرافيا المليئة بالتعقيدات.
الممرّ الذي تطالب به أذربيجان للربط البرّي بمقاطعة نخجوان ثمّ تركيا، أنشأ خلافاً يطرح خلافات أكبر وأعمق بين باكو وطهران، نظراً إلى التغييرات التي يمكن أن يُحدثها في الجغرافيا السياسية لمنطقة جنوب القوقاز
لنبدأ الحكاية من أوّلها:
1- من المعروف أنّ “المقصّ السوفيتي” لعب دوره في عشرينيات القرن الماضي في رسم خرائط آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، بما يتلاءم مع مصالح “الدبّ الروسي” آنذاك. منطقة “زَنغِيزور” التي كانت أذربيجانية يسكنها مسلمون أتراك أُلحقت بخريطة أرمينيا، الأمر الذي تسبّب في فقدان أذربيجان اتصالها البرّي مع مقاطعة “نَخجِوان الأذرية” التي تتمتّع بالحكم الذاتي، ومع تركيا المجاورة لهذه المنطقة.
2- ورثت روسيا بعد نهاية الحرب الباردة من الاتحاد السوفيتي خريطة التقسيمات الجغرافيّة لمنطقة جنوب القوقاز، التي أمْلت في ذلك الوقت ضمّ مقاطعة سيفنيك ذات الغالبية المسلمة الناطقة باللغة التركية إلى أرمينيا، لقطع التواصل البرّي بين أذربيجان وتركيا.
3- لكنّ روسيا تغيّرت أولويّاتها في جنوب القوقاز على وقع الحرب في أوكرانيا والفشل في تحقيق أهدافها. وفي هذا المجال، ذكرت مجلّة “فورين أفيرز” أنّ “الحرب التي بدأت في أوكرانيا في عام 2022، أظهرت روسيا ضعيفة ومشتّتة، وغيّرت أولوياتها في القوقاز. أصبحت أذربيجان، حيث الطريق البرّي الرئيسي لروسيا إلى الجنوب، شريكاً أكثر أهمية من أرمينيا، حليفتها المسيحية التقليدية في المنطقة”.
كان الإذعان الروسي أمراً بالغ الأهمية عندما أغلقت أذربيجان ممرّ لاتشين (الممرّ الذي يربط بين أرمينيا وإقليم ناغورنو كاراباخ والذي كان تحت السيادة الأرمنية) في كانون الأوّل 2022. يبدو أنّ جغرافيا أذربيجان التي تشكّل العمود الفقري والمعبر الإلزامي في الممرّ الشمالي الجنوبي، أخذت تحتلّ مكانة رئيسية على أجندة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفي ضوء العقوبات الغربية على روسيا، وتقليص اتّكال أوروبا على هذا الممرّ لإيصال النفط والغاز الروسيَّين، يراهن بوتين على هذا الممرّ لربط روسيا بالمحيط الهندي، من خلال سكك حديدية يخطّط لأن تعبر إيران وأذربيجان وصولاً إلى بحر قزوين ثمّ إلى أراضي الاتحاد الروسي.
مخاوف طهران: يحاصر نفوذها
الممرّ الذي تطالب به أذربيجان للربط البرّي بمقاطعة نخجوان ثمّ تركيا، أنشأ خلافاً يطرح خلافات أكبر وأعمق بين باكو (عاصمة أذربيجان) وطهران، نظراً إلى التغييرات التي يمكن أن يُحدثها في الجغرافيا السياسية لمنطقة جنوب القوقاز.
هذا المشروع الذي رفضه بشكل صريح المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، يؤدّي بنظره إلى إغلاق حدود بلاده مع أرمينيا، وإلى تغيير معادلة النفوذ في جنوب القوقاز لمصلحة أذربيجان وتركيا العضو في حلف شمال الأطلسي، والمتّهمة من قبل طهران بالوقوف وراء هذا المشروع الذي يتيح لها إعادة التواصل البرّي مع دول آسيا الوسطى الناطقة باللغة التركية، وتعزيز مكانتها الإقليمية ونفوذها على حساب إيران التي ترزح تحت ثقل العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة عليها على خلفية برنامجها النووي وأنظمة الصواريخ البالستية.
يكتسب هذا الممرّ أهمية بالغة في تقاطعات الجغرافيا السياسية في المجال الأوراسي بين كلّ من روسيا، تركيا، إيران، أرمينيا وأذربيجان
يشير العديد من الدراسات التي تتناول الأوضاع الجيوسياسية في جنوب القوقاز إلى أنّ إيران تعارض بشدّة هذا الممرّ للأسباب التالية:
1- بنظر طهران، الممرّ هو مشروع “أذري تركي”، مدعوم من الغرب يهدف إلى ربط أذربيجان بتركيا التي تسعى إلى الوصول إلى دول آسيا الوسطى، الأمر الذي سيؤثّر على ميزة الجغرافيا السياسية الإيرانية، ويضعف نفوذ طهران.
2- يشجّع على تقوية النزعة “القومية الأذريّة”، الأمر الذي يثير مخاوف قادة الجمهورية الإسلامية التي يعيش فيها أكثر من 20 مليون أذريّ يشكّلون 22% من إجمالي السكّان في إيران.
3- يهدّد طرق النقل البرّية التي تتحكّم بها طهران، حارماً إيّاها من عائدات مرور الصادرات التركية إلى دول آسيا الوسطى، بالإضافة إلى حرمانها من عائدات رسوم عبور الشاحنات الأذرية إلى إقليم نخجوان الذي يتّصل حالياً بالأراضي الأذربيجانية عن طريق إيران.
4- سيؤدّي إنشاء خط أنابيب جديد للطاقة في جنوب أرمينيا، إلى فقدان إيران ميزاتها التفاضلية في نقل الغاز الإيراني إلى تركيا، وسيؤدّي لاحقاً إلى الاستغناء الكلّي عن إمكانية توريد الغاز الإيراني إلى أوروبا.
5- تتوجّس إيران من المدى الذي بلغته العلاقات بين أذربيجان وإسرائيل التي ساهمت في تسليح الجيش الأذربيجاني وتزويده بأحدث الأسلحة والتدريبات، وتقيم محطات تنصّت على الأراضي الأذربيجانية، القريبة من الحدود الشمالية لإيران.
تواجه حكومة نيكول باشينيان الأرمنية معارضة كبيرة في الشارع على خلفية الهزيمة المهينة في ناغورنو كاراباخ. وتمرّ حكومته بأزمة ثقة كبيرة مع روسيا، إذ ذهب بعيداً في الرهان على الولايات المتحدة الأميركية في حين تراجعت حاجة بوتين إلى أرمينيا، مقابل ارتفاع أثمان الجغرافيا السياسية لتركيا وأذربيجان.
إقرأ أيضاً: الصراع الآذريّ – الأرمنيّ مثال على التناقضات في لعبة الأمم
راقبت موسكو بغبطة سقوط باشينيان في كاراباخ، وتنتظر سقوطه في يريفان، عاصمته. فهل يشرب الكأس المُرّة مَرّة ثانية، ويقدّم تنازلات في الممرّ الجنوبي لإردوغان وعلييف مقابل دعمه وترتيب أوضاعه مع الكرملين؟ وهل يستطيع تسويق هذه الخطوة في الشارع الأرمني الغاضب؟ وهل تسعى روسيا مع إيران لإقناعها بالتخلّي عن معارضتها إنشاء ممرّ زنغيزور، مقابل إشراكها في ترتيبات معادلة النفوذ الجديدة بعد سقوط كاراباخ؟
علييف وإردوغان أمام اختبار كبير في القدرة على قطف ثمار التحوّلات في جنوب القوقاز. لكنّ ثمّة حقيقة واضحة، وهي أنّ ربط تركيا بدول آسيا الوسطى سيؤدّي إلى تحوُّل جيوسياسي كبير في المجال الأوراسي.
* أستاذ الدراسات العليا في كلّية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية.