هكذا ضربت بغداد “زعامة” كركوك

مدة القراءة 6 د


عندما رفض رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي عام 2017 الاستفتاء الذي أجرته سلطات إقليم كردستان حول الانفصال، اختار التحوّل بعد معركة تحرير الموصل إلى حسم الموقف في كركوك واستعادة سلطة الحكومة الاتحادية عليها بعدما قامت إربيل بمحاولة فرض أمر واقع واعتبار هذه المحافظة جزءاً من الاستفتاء من دون انتظار حسم الخلاف حول تطبيق المادّة 140 من الدستور المتعلّقة بمصير المناطق المتنازَع عليها وضرورة إجراء تعداد سكاني لأهاليها.

فقام العبادي بنقل القوّات مباشرة إلى كركوك باعتبار أنّ المهمّة التالية للجيش العراقي بعد تحرير الموصل من الإرهاب الداعشي استعادتها من قوات البيشمركة التابعة لحكومة إربيل والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني.

كان مصيريّاً التعقيد الذي واجهه العبادي حينها ودفعه إلى خيار العمل العسكري، لأنّ خسارة كركوك قد تعني انتقال الأزمة إلى بغداد مع ما يعنيه ذلك من إضعافه وإضعاف الحكومة الاتحادية التي لم تخرج حتى تلك اللحظة من التداعيات السلبية للحرب مع الإرهاب و”داعش”. بالإضافة إلى أنّ الحكومة الاتحادية ستكون في مواجهة أزمة كردية – كردية نتيجة تنازع السيطرة بين الحزبين والقوّتين الرئيستين: “الاتحاد الوطني” بقيادة بافل طالباني من جهة، و”الديمقراطي الكردستاني” بقيادة مسعود بارزاني من جهة أخرى. خاصة أنّ الأخير سعى إلى فرض سيطرته على المدينة على حساب غريمه حزب الاتحاد.

منع تقسيم العراق

اختيار العبادي والحكومة الاتحادية لكركوك والهجوم الصاعق واستعادة السيطرة السريعة عليها كشفت حقيقة ما تمثّله هذه المدينة بالنسبة إلى إربيل، وأنّها الخاصرة الأضعف في المشروع الكردي الذي يسعى إلى تكريسه بارزاني. لأنّ سيطرة القوات الاتحادية عليها قطعت الطريق على المسار الانفصالي الكردي وأوقفت تداعياته التي تؤسّس لتقسيم العراق ومنعت المزيد من المطالب المشابهة، سواء من داخل المكوّن الشيعي في الجنوب، أو المكوّن السنّي الذي كان في تلك اللحظة أكثر قرباً من مطلب تأسيس إقليم مستقلّ في المحافظات الغربية نتيجة تراكم المواقف والتوجّهات الداعية إلى إقامة مثل هذا الإقليم حتى قبل دخول “داعش” والسيطرة عليها، والتي عبّرت عنها ساحات الاعتصام في الأنبار في عهد حكومة نوري المالكي.

عندما رفض رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي عام 2017 الاستفتاء الذي أجرته سلطات إقليم كردستان حول الانفصال، اختار التحوّل بعد معركة تحرير الموصل إلى حسم الموقف في كركوك

لم تقف تداعيات تراجع العلاقة بين بغداد وإربيل عند حدود معركة السيطرة على كركوك وعائديّة انتمائها الجيوسياسي. بل استمرّت في خلفيّة المواقف والتحالفات التي نشأت بعد هذه الأحداث. خاصة في السنتين الماضيتين، والتي كشفت عن تراكم سلبي وتراجع الثقة بين قوى وأحزاب وفصائل البيت الشيعي المجتمعة تحت عنوان “الإطار التنسيقي” والتحالف الثلاثي الذي نشأ بين بارزاني وحزبه وبين كلّ من التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر وزعيم حزب “تقدّم” رئيس البرلمان محمد الحلبوسي تحت اسم “إنقاذ وطن”. وهو الذي رفع شعار تشكيل حكومة الأغلبية البرلمانية بعدما استطاعت أحزاب هذا التحالف الحصول على أكثرية المقاعد النيابية داخل مكوّناتها في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي جرت في 10/10/2021، ورفض أيّ شراكة مع قوى “الإطار التنسيقي” ومشروع تشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة الجميع.

أخطاء الصدر الانفعالية

وُضع “الإطار التنسيقي” أمام تحدٍّ وجودي لا تقف تداعياته السلبية عند القوى والفصائل الشيعية وإمكانية إخراجها من العملية السياسية، بل تتعدّاها لتطال الدور والموقع والنفوذ الإيراني الحليف لهذه الفصائل والأحزاب على الساحة العراقية، وبالتالي إلحاق الخسارة بطهران مع ما يعنيه ذلك من تنازلات قد تكون مجبرة ومضطرّة إلى تقديمها لخصمها اللدود في الإدارة الأميركية. ونتيجة سياسة “الصبر الاستراتيجي” التي مارسها “الإطار التنسيقي”، والتسويف والمماطلة وعرقلة جهود تشكيل الحكومة، وأيضاً نتيجة الدور السلبي الذي مارسه “الإطار” مستغلّاً استجابات زعيم التيار الصدري الانفعالية، ارتكب الصدر أخطاء استراتيجية أوصلته إلى قرار متسرّع بالانسحاب من العملية السياسية والبرلمانية بإعلان استقالة نواب تيّاره.

لكنّ إخراج أو خروج الصدر من المشهد السياسي لم يكن ليرضي أقطاب وقيادات “الإطار التنسيقي”، فهم على الرغم من التسوية التي قاموا بها مع المكوّنين الكردي بزعامة بارزاني والسنّي بقيادة الحلبوسي، والتي سهّلت الطريق أمام تشكيل الحكومة، إلا أنّهم لجأوا إلى سياسة تفريغ هذه التسوية من مضمونها والالتزامات الصعبة التي جاءت فيها. فذهبوا إلى سياسة تقليم أظافر الحلبوسي داخل المكوّن الذي ينتمي إليه من خلال زرع زعامات منافسة له استدعوها من التاريخ متناسين صراعاتهم الدموية معها، ولوّحوا بعصا إقالته من رئاسة البرلمان وفتحوا له ملفّات فساد إداري في مناطق نفوذه، وخاصة في محافظة الأنبار. فكانت النتيجة عقد تسوية جديدة في إطار معادلة الإبقاء عليه مقابل عدم عرقلة عمل الحكومة وتعزيز قبضة “الإطار” على مفاصل الدولة بكلّ مؤسّساتها وقراراتها السياسية والأمنية والعسكرية، وخاصة في موضوع دور وحجم الحشد الشعبي الذي يشكّل الذراع أو الأداة التي يستخدمها “الإطار” في تعزيز سيطرته.

إقرأ أيضاً: عام على السوداني: العراق.. تفكيك وإعادة تركيب

في موازاة التفكيك الذي مارسه “الإطار التنسيقي” دفاعاً عن مصالحه واستمراريّته في الإمساك بالسلطة والقرار، وهي ممارسات لم تكن بعيدة عن عين ومواكبة حليفه الإيراني الذي يعمل على ترتيب المشهد العراقي بما يخدم مصالحه، وعلى إبعاد شبح الصراعات داخل البيت الشيعي… كان لا بدّ من الانتقال إلى محاسبة الشريك اللدود في إربيل وتفكيك مصادر قوّة “الحزب الديمقراطي” وإضعاف الزعامة البارزانية. وليس من الضروري اختراع زعامات جديدة، بل تكفي إعادة هيكلة أوضاع “حزب الاتحاد الوطني” بقيادة بافل طالباني نجل الزعيم التاريخي الرئيس جلال طالباني، الذي يُعتبر شريكاً ومنافساً للزعامة البارزانية والحزب الديمقراطي في الإقليم.

في الحلقة الثانية غداً:

بارزاني وطالباني: تقسيم المُقسّم… والانفصال

مواضيع ذات صلة

إيران “تصدّر” أوهامها إلى الحزب..

ما يدعو إلى القلق والخوف على لبنان قول نعيم قاسم الأمين العامّ الجديد لـ”الحزب” في خطابه الأخير إنّ “خسارة طريق الإمداد عبر سوريا مجرّد تفصيل”….

“العقبة” تكشف عقبات المشهد السّوريّ

يليق بمدينة العقبة الأردنية الواقعة على ساحل البحر الأحمر والمشهود لها بخصوصيّاتها في استضافة وتنظيم العشرات من المؤتمرات الإقليمية والدولية ذات الطابع السياسي والأمنيّ والاقتصادي،…

سرديّة جديدة: سلاح “الحزب” للحماية من مخالفات السّير؟

.. “عفكرة توقيف سحر غدار هو عيّنة كتير صغيرة، شو رح يصير فينا كشيعة إذا سلّمنا سلاحنا. طول ما سلاحك معك هو الوحيد يلّي بيحميك….

نخبة إسرائيل: خطاب نعيم قاسم “خالٍ من الاستراتيجية”

منذ تعيينه أميناً عامّاً لـ”الحزب” بعد اغتيال سلفه نصرالله، وخليفته السيّد هاشم صفيّ الدين، سيطر الإرباك على خطب الشيخ نعيم قاسم، فتارة حاول تبرير حرب…