بدأت التحذيرات ترتفع لدى مسؤولين أمميين وخبراء اقتصاديين من عواقب كارثية تنتظر العالم، إذا ما انفجرت أزمة ديون الدول النامية. إذ تراوح هذه الأزمة مكانها جرّاء تقاذف المسؤوليات بين الغرب من جهة، والصين من جهة أخرى، وتعاظم الخلافات الجيوسياسية على المسرح العالمي.
في هذا الإطار لنراقب هذه التحذيرات:
– صرّح الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في قمّة العشرين الأخيرة في نيودلهي أنّ “الهيكل الماليّ العالمي عفا عليه الزمن، ويعاني من الاختلال الوظيفي، وغير عادل، ويتطلّب إصلاحاً هيكلياً”.
– وصرّحت كريستالينا جورجيفا، المديرة الإدارية لصندوق النقد الدولي منذ فترة وجيزة، أنّ “حوالي 15% من البلدان المنخفضة الدخل تعاني بالفعل من ضائقة ديون، و45% أخرى معرّضة لخطر كبير من ضائقة الديون”.
– أمّا التحذير الكبير فقد جاء من كبير المعلّقين الاقتصاديين مارتين وولف في صحيفة “فايننشال تايمز” في مقالة عنوانها: “يجب أن نعالج أزمة الديون العالمية التي تلوح في الأفق قبل فوات الأوان”.
بعد 25 عاماً من إطلاق مبادرة دولية واسعة النطاق لتخفيف عبء الديون عن البلدان الفقيرة، تُعتبر الآن حوالي 15 في المئة من البلدان المنخفضة الدخل واقعةً في محنة الديون، مع 40 في المئة آخرين معرّضين لخطر الوقوع في هذا الوضع
تضخّم الديون: لبنان ومصر وأفريقيا
يواجه العالم الثالث معضلة تضخّم الديون بشكل غير مسبوق. وتفيد الأرقام الصادرة عن مؤسّسات مالية دولية أنّ ديون البلدان الإفريقية تضاعفت 5 مرّات خلال العقدين الماضيين، ملامسةً حاجز تريليون دولار (الصين تستحوذ على 12% من إجمالي هذا الدين)، وسط توقّعات بتخلّف عدد واسع من البلدان عن السداد في العام الحالي.
وفقاً لصندوق النقد الدولي، فإنّ 22 دولة إفريقية تعاني بالفعل من أعباء الديون، أو هي غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه الدائنين. بعض الدول أصبح في حالة تخلّفٍ عن سداد الديون مثل غانا وزامبيا.
يقع العالم العربي في قلب هذه المأساة، إذ أكّدت تقارير صادرة عن الإسكوا ارتفاع الدين العام في المنطقة العربية إلى مستويات تاريخية بحيث بلغ نحو 60% من الناتج المحلّي الإجمالي للمنطقة في عام 2020. وتؤكّد تقارير جديدة أنّ ديون حكومات الدول العربية، ومن بينها دول الخليج، تجاوزت 1.5 تريليون دولار خلال عام 2022، وتقدّمت مصر على باقي الدول العربية بحجم الديون الداخلية والخارجية، إذ بلغت ما يعادل 94% من إجمالي الناتج المحلي فيها. ويُعتبر لبنان حالياً من الدول التي تخلّفت عن سداد ديونها، في حين لا تملك الحكومة أيّ مشروع لإعادة هيكلة الدين.
تظهر صورة المأساة في الأرقام التي نُشرت في تقارير متعدّدة والتي أكّدت أنّ متوسّط مستويات الديون في البلدان المنخفضة الدخل ارتفع من 38 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي إلى 60 في المئة، وأنّ متوسط مستويات الديون في بلدان الأسواق الناشئة بلغ 58 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي، وهي زيادة كبيرة عن العقد السابق، الذي بقي عند مستوى 42 في المئة. وذكرت هذه التقارير أنّ ربع الأسواق الناشئة معرّضة للتعثّر والتخلّف عن سداد ديونها.
يبدو أنّ مسألة الديون ستراوح مكانها مع دخولها ميدان الصراعات الجيوسياسية بين الغرب والصين، وأنّ الغرب الذي تخلّف عن التزاماته تجاه التنمية المستدامة وكلفة التغيير المناخي ليس على استعداد لتغيير نهجه في هذه المسألة
الغرب يتّهم الصين والدائنين الجدد
بعد 25 عاماً من إطلاق مبادرة دولية واسعة النطاق لتخفيف عبء الديون عن البلدان الفقيرة، تُعتبر الآن حوالي 15 في المئة من البلدان المنخفضة الدخل واقعةً في محنة الديون، مع 40 في المئة آخرين معرّضين لخطر الوقوع في هذا الوضع.
إذاً من المسؤول عن هذه الكارثة، خصوصاً بعد فشل الإطار المشترك الذي أنشأته مجموعة العشرين في عام 2020 بهدف دمج الصين والمقرضين الآخرين في عملية إعادة هيكلة نادي باريس تحت إشراف صندوق النقد الدولي ودعمه؟
لم يُخفِ مارتن وولف في صحيفة “فايننشال تايمز” مسؤولية الغرب عن هذا الفشل، إذ قال: “يجب القيام بشيء ما، بدءاً بمعالجة أزمة ديون العالم الثالث التي تلوح في الأفق الآن، لأنّ الغرب شريك في ما يحدث، ولأنّ النهج الحالي لن يؤدّي إلى تفادي الكارثة”. ولم يُخفِ قلقه من أن تطال الكارثة أوروبا في حال وقوع الانهيار.
في المقابل، تبدو وجهة النظر الأميركية مختلفة.
مايكل بينون وفرانسيس فوكوياما، في مقالة نُشرت في مجلّة “فورين أفيرز” بتاريخ 22 آب بعنوان “طريق الصين إلى الخراب الولادة الحقيقية لمبادرة الحزام والطريق”، أشارا بشكل واضح إلى مسؤولية الصين عن ارتفاع مستوى المديونية في العالم الثالث، بعدما تخلّفت سريلانكا عن سداد مدفوعات مشروع ميناء هامبانتوتا في عام 2017، وحصلت الصين على عقد إيجار لمدّة 99 عاماً للممتلكات كجزء من صفقة لإعادة التفاوض على الدين.
أقلق هذا الواقع واشنطن والعواصم الغربية الأخرى التي تعتبر أنّ بكين تخطّط “للوصول إلى المرافق الاستراتيجية في سائر أنحاء المحيط الهندي والخليج الفارسي والأميركيّتين”. وفي محاولة مكشوفة لتبرئة الغرب وإلقاء اللوم على الآخرين قال بينون وفوكوياما في المقالة نفسها: “لقد تغيّر مشهد الدائنين بشكل كبير على مدى العقود العديدة الماضية مع دخول دائنين رسميين جدد مثل الصين والهند والمملكة العربية السعودية المشهد وتوسُّع مجموعة متنوّعة من الدائنين من القطاع الخاصّ بشكل كبير…… الزيادة في عدد الدائنين ونوعهم جعلت ذلك أكثر تحدّياً، خصوصاً أنّ بعض الدائنين الرئيسيين منقسمون على أسس جيوسياسية”.
وقد اعتبرا أنّ عدم موافقة الصين على الانضمام إلى نادي باريس (الذي طوّره الدائنون الغربيون للتعامل مع القضايا المتعلّقة بالتخلّف عن السداد السيادي)، من شأنه أن يعيق عمل المؤسّسات الدولية في تقويم مقدار المتاعب التي يواجهها بلد معيّن بدقّة، في حالة عمليات الإقراض غير الشفّافة. (تشير دراسات في الغرب إلى أنّ نصف ديون الصين للعالم النامي مخفيّة وغير مسجّلة في القيود الرسمية).
وأشار بينون وفوكوياما إلى أنّه يجب على أميركا أن تمنع استفادة الصين من هيكلة الديون، وعلى صندوق النقد أن يفرض معايير أكثر صرامة على البلدان التي تسعى إلى الإنقاذ، وأن يطالب بمزيد من الشفافية في الإقراض من جميع أعضائه، بما في ذلك الصين.
بالطبع هذه الآراء تلقى أصداء كبيرة في دوائر صنع القرار في البيت الأبيض، وفي مطبخ صندوق النقد الدولي، الذي لا يحتاج في الأساس إلى هذه الحماسة لانتهاج سياسات متشدّدة للإقراض مثل الإصرار على الإصلاحات الهيكلية وتحرير أسعار الصرف ووقف سياسات الدعم وغيرها من الإجراءات التي عمّقت أزمات العديد من الدول بدل حلّها.
إقرأ أيضاً: الممرّ الجديد: “الحلم الهندي”… لمواجهة “الحلم الصيني”
الغرب ليس على استعداد لتغيير نهجه
بين سياسات صندوق النقد الدولي المتشدّدة في إعادة هيكلة الديون، وسياسات المصرف الفدرالي الأميركي المتشدّدة في رفع سقف أسعار الفائدة، وبين محاولة الغرب الهروب إلى الأمام، وإلقاء اللوم على الصين بسبب انتهاجها سياسات أوقعت عدداً من الدول النامية “بفخّ الديون السيّئة”، يستمرّ العالم النامي بالغرق في أزمة مديونية غير مسبوقة، وقد تلقى المصير نفسه للأزمات التي انفجرت في دول أميركا اللاتينية في القرن الماضي.
يبدو أنّ مسألة الديون ستراوح مكانها مع دخولها ميدان الصراعات الجيوسياسية بين الغرب والصين، وأنّ الغرب الذي تخلّف عن التزاماته تجاه التنمية المستدامة وكلفة التغيير المناخي ليس على استعداد لتغيير نهجه في هذه المسألة.
في غياب شبكة الأمان الماليّة للحدّ من تداعيات أزمة الديون، يبدو أنّ قدَر العالم النامي أن يستمرّ في دفع فواتير أسعار الفائدة العالية، وكلفة الاحتباس الحراري الذي تسبّبت به الدول الصناعية والصين، وكلفة الغذاء الذي تسبّبت به أزمة الجفاف وحصار روسيا للموانىء الأوكرانية.
* أستاذ الدراسات العليا في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية بالجامعة اللبنانية.