زار رئيس التيّار الوطني الحر جبران باسيل مدينة الميناء في 18 أيلول الماضي، جال في شارع يعقوب اللبّان الأثريّ الشهير بـ”مينو” للاطّلاع على مشروع إعادة ترميم وتجميل المنطقة. آنذاك، غرّد باسيل على حسابه على “تويتر” مُعلناً بدء مرحلة جديدة من العمل في الحيّ الذي زاره: “وهيدا واجب تجاه أهلنا بهذه المدينة العزيزة بمساهمة من ناسها، ما بينقصه كتير ليستقطب أكثر”.
لكنّ أغلب الطرابلسيّين لم يأخذوا زيارة باسيل ولا كلامه على محمل الجدّ، بل انهالت على تغريدته إيّاها الكثير من التعليقات الساخرة. واعتبر البعض أنّ صهر الرئيس أتى في وقت مبكر ويوم الأحد بالذّات خوفاً من ردّة فعل أبناء طرابلس والميناء نظراً للودّ المفقود بينهما. بيد أنّ ذلك غير صحيح.
رأس جسر باسيليّ
لم تكن الزيارة فعلاً عابراً، بل كانت تدشيناً لمسار انفتاح التيّار الوطني الحر على طرابلس والميناء. وبالفعل يقود باسيل مشروع ترميم واحد من أبرز شوارع الأخيرة، ويتميّز هذا الشارع بمقاهيه وحاناته وبطابع يختلف عن الأنماط الاجتماعية السائدة في طرابلس. وذلك عائد إلى وجود قاعدة مسيحية في الميناء ذات جذور راسخة. لكنّ تطوير الشارع المذكور ليس سوى رأس جسر باسيليّ نحو طرابلس. وبمعزل عن موقف السواد الأعظم من أبناء عاصمة الشمال من الرجل، فإنّه يتمتّع بدينامية هائلة تجعله لا ييأس من السعي الدائم إلى تسجيل الخروقات، ومحاولة مدّ نفوذ تيّاره في مختلف المناطق اللبنانية على الرغم من كلّ المعوّقات.
في الانتخابات النيابية الماضية، بدت دائرة “الشمال الثانية” (طرابلس، الضنّية، المنية)، بالإضافة إلى دائرتَي الجنوب الثانية والثالثة، بمنزلة مناطق عصيّة على نفوذ جبران باسيل، مع اختلاف الأسباب ما بين الجنوب والشمال. هذا في الشكل، أمّا في المضمون، فقد كان له مرشّحان عن المقعد الماروني في طرابلس، واحد مقنّع والآخر معلَن. الأخير انسحب باكراً ولم يستطع إكمال المسيرة، نتيجة تفضيل النائبين فيصل كرامي وجهاد الصمد عدم ضمّ أيّ مرشّح عونيّ إلى لائحتهما كي لا يرتدّ ذلك سلباً على أرصدتهما في صناديق الاقتراع.
أمّا المرشّح المقنّع فلم يكن سوى ألفرد دورة الذي خاض الانتخابات على لائحة “الجمهورية الثالثة” لعمر حرفوش، وحلّ في المركز الأوّل على صعيد الأصوات متجاوزاً حرفوش نفسه، بعد نيله 1,285 صوتاً، وهو رقم لافت وله دلالاته، وخصوصاً على صعيد الحضور المسيحي في “الشمال الثانية”. وعلى الرغم من أنّ التيّار الوطني الحر أبعد كلّ المظاهر البرتقالية عن دورة من أجل تقديمه للناس مرشّحاً تغييريّاً غير حزبيّ، إلّا أنّه في نهاية المطاف مشروع باسيليّ، والدلالة الأبرز على ذلك أنّ نجل دورة كان بصحبة باسيل في جولته بمدينة الميناء. ليس ذلك فحسب، بل إنّ دورة تحوّل منذ الانتخابات إلى واحد من أبرز وجوه الميناء، من خلال حضوره الشعبي ورعايته للعديد من المناسبات والنشاطات الاجتماعية والرياضية.
استمالة الرموز
بالعودة إلى الأشهر الأولى التي أعقبت لحظة 17 تشرين 2019، فإنّ التيّار الوطني الحر سعى إلى تطويع عدد من الأسماء التي لمع نجمها في تحرّكات الشارع وقطع الطرقات في طرابلس، محاولاً كسبهم إلى صفّه عبر التقديمات والخدمات. وقد نجح إلى حدّ ما في تقريب بعضهم، ولم تتوقّف هذه المحاولات المستمرّة إلى يومنا هذا عند الثوّار، بل شملت أيضاً محاولة الانفتاح على مجموعة من الذين يُعرفون بكونهم “مفاتيح انتخابية” مؤثّرة.
اختار التيّار العوني الأكثر تأثيراً بين هؤلاء وضرب لهم مواعيد مع رئيسه جبران باسيل بمنزله في البترون. وحسب المعلومات فإنّ الأخير راضٍ عن النتيجة التي حقّقها تيّاره في الشمال الثانية، ويعتبرها نقطة انطلاق يمكن المراكمة عليها من أجل تحقيق اختراق حقيقي في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. ولذلك عرض باسيل على من التقاهم العمل مع تيّاره. وتشي متابعة الرجل بنفسه لملفّ طرابلس بإصراره على التمدّد في عاصمة الشمال. بالطبع لن يشكّل التمدّد الباسيليّ خطراً على المرجعيّات الطرابلسية، على الرغم من التراجع المخيف في الرصيد الشعبي لبعضها، لكنّ باسيل يعمل كي يصبح تيّاره شريكاً في صناعة المشهد الطرابلسي.
الفرصة سانحة
في هذا السياق تشكّل الانتخابات البلدية والاختيارية، وخاصة في مدينة الميناء، محطّة مهمّة لباسيل من أجل إثبات حضور تيّاره، ولا سيّما مع اعتكاف تيّار المستقبل، وميل الرئيس ميقاتي إلى الانكفاء وفق ما ظهر في الانتخابات النيابية وفي تراجع عمل وتقديمات مؤسّساته. وهو ما يمنح باسيل فرصة ذهبية لمدّ نفوذه في طرابلس العطشى للخدمات التي يُعتبر باسيل أكثر من يملك ناصيتها بفعل نفوذه داخل إدارات الدولة، وأكثر منها في مدينة الميناء ذات الحضور المسيحي الفاعل، التي عجز مجلسها البلدي عن إكمال ولايته مرّتين متتاليتين، وسقط سريعاً نتيجة كثرة الخلافات بين أعضائه وتعدّد المسترئسين بينهم وتنافسهم الشديد.
إقرأ أيضاً: الحزب في طرابلس.. من هو الحاجّ شومان؟
على الرغم من تأجيل الانتخابات إلّا أنّ التيّار الوطني الحر يُعدّ العُدّة بشكل هادئ لخوضها في الميناء وطرابلس، حسبما يظهر من محاولاته لاستمالة المفاتيح الانتخابية الفاعلة شعبياً، وإبرازه حضور تيّاره، وإنْ كان رمزيّاً وذا طابع اجتماعي في عيد الفصح أخيراً، وتصديره صور المحجّبات البرتقاليّات في رسالة يحاول من خلالها خطب ودّ السُّنّة.
يحدث الأمر عينه لدى القوّات اللبنانية التي تعمل على تعزيز حضورها في طرابلس والميناء. وما يحصل في بيروت من سعي الثنائي المسيحي إلى تقسيمها لن تكون طرابلس والميناء بمنأى عنه، مع اختلاف الشكل والأسلوب، وخصوصاً في الأولى التي فاز فيها في الدورة السابقة مجلس بلدي مؤلّف من 24 عضواً كلّهم سُنّة، في سابقة من الصعب جدّاً أنْ لا يستخدمها الثنائي لتحصيل مكاسب انتخابية.