شاءت “المواعيد” أن “ألتقي” السفير الإيراني 3 مرّات خلال الشهرين الماضيين:
– مرّة في “حوار” دعا إليه مجموعة من الصحافيين “الخصوم”، تقريباً. وكان ذلك قبل إعلان الاتفاق الصيني بـ4 أيام. وكانت الدعوة مفاجئة، ولافتة، و”حواريّة”. كأنّ الإيعاز بـ”الحوار” كان يستبق اتفاق بكّين.
– مرّة أخرى خلال المؤتمر الصحافي لوزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان، وقد طرحتُ سؤالاً اختار الوزير عدم الإجابة عليه، فشارك السفير السؤال والجواب على صفحته في تويتر.
– ومرّة ثالثة خلال لقاء “حواريّ” نظّمه الزميل قاسم قصير في “مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي”، بعنوان “مستقبل العلاقات العربية بعد الاتفاق السعودي الايراني”.
يحلو للبعض تشبيه “النفوذ الإيراني” قبل اتفاق بكين مع السعودية، بأنّه “ربح كبير على طاولة قمار المنطقة”، وأنّ هناك شبّاكَين لـ”الفِيَش”، يجلس عليهما اثنان: الأميركي، والعربي. ولا مجال لتقريش الأرباح إلا على أحدهما
بين هذه اللقاءات، كان هناك تشاور دائم مع عدد من القريبين من الحزب، لمحاولة “فهم” كيف يفكّر الحزب، وجلسة مطوّلة مع أحد العارفين بخفايا “العقل” الحزبي. وكان الهدف من هذه اللقاءات والحوارات، هو محاولة فهم “ماذا يريد الحزب اليوم؟”.
وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، حين زار لبنان والتقى الأمين العامّ للحزب، أبلغه أنّ المنطقة مقبلة على هدوء طويل، وطلب منه الذهاب إلى “رئيس لا يستفزّ السعودية” (راجع مقال الزميل خالد البواب بتاريخ 10 أيّار الجاري).
سفيره في بيروت وضاحيتها الجنوبية بدأ بتنفيذ “أجندة حواريّة”، لا تبدأ بالانفتاح على صحافيين “في المحور الآخر”، أو “كانوا”، ولا تنتهي بفتح ذاكرته وقريحته أمام محاوريه، من دون قفّازات.
تبييض النفوذ
يحلو للبعض تشبيه “النفوذ الإيراني” قبل اتفاق بكين مع السعودية، بأنّه “ربح كبير على طاولة قمار المنطقة”، وأنّ هناك شبّاكَين لـ”الفِيَش”، يجلس عليهما اثنان: الأميركي، والعربي. ولا مجال لتقريش الأرباح إلا على أحدهما.
في المقابل، كان العرب يحاولون صياغة تحالف مع إسرائيل، لمواجهة الخطر الإيراني. لكنّ إسرائيل رفضت الذهاب إلى حلّ عادل لقضية الشعب الفلسطيني، ورفضت ضرب إيران. وذهبت باتجاه التطرّف مع بنيامين نتانياهو والمجرمَيْن إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، ونحو الغوص في دم الفلسطينيين…
في هذا الوقت كانت إيران تنفض يدها من الاتفاق النووي بعد أن بلغ التخصيب 80 بالمائة وصار مفتاح المفاعل في جيبها. وانتهت “ليالي الأنس في فيينّا” و”فرَط” الحوار النووي.
“تفكّك” النفوذ الأميركي
كان الوقت كفيلاً بأن يثبت للطرفين أنّ الإسرائيلي والأميركي ليسا بشريكين يمكن الاعتماد عليهما. وهنا لمعت الفكرة الصينية: “اتفاق إيراني سعودي” يدخلها إلى المنطقة من أوسع أبوابها، فيما أميركا تخرج “مُهانة” من أفغانستان، ومستعجلة من العراق، ووزيرة خزانتها تعلن أنّها للمرّة الأولى قد تكون “مهدّدة بالعجز عن سداد ديونها في حزيران المقبل”.
بشار الأسد سيتحوّل إلى “شركة مساهمة”، للعرب حصّة فيها، ربّما أقلّ من إيران، إلى جانب روسيا، والصين قريباً في إعادة الإعمار. وفي اليمن، ستنتهي المباحثات إلى “شراكة سياسية” في الدولة، بين حلفاء إيران وحلفاء السعودية
أيضاً من حسن حظّ إيران، وربما العرب، أنّ أميركا تعيش أسوأ أيّامها على الإطلاق.
– في العراق: تراجع حضورها.
– في سوريا: تشبه أسداً وحيداً، بين جيوش كلّها معادية، من السوري إلى الروسي والإيراني والتركي، والفرنسي بشكل أقلّ، إضافة إلى جيش الحزب. طبعاً إلى جانب سلاح الطيران الإسرائيلي، كما انضمّ سلاح الطيران الأردني مؤخّراً في قصفه على مهرّبي المخدّرات السوريين داخل الأراضي السورية.
– في الخليج: تعاني ما تعانيه، منذ “السلام البارد” في استقباله بالسعودية، وليس انتهاءً باقتراب الإماراتيين من روسيا وإيران.
– في مصر: خلافات خرج أكبرها إلى العلن بعد اتهام الجيش المصري بتصنيع صواريخ لصالح الروس ضدّ أوكرانيا المدعومة من أميركا.
أميركا نفسها تجرّأ عليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الصين، معلناً ضرورة “استقلال” أوروبا عن “التبعية” لواشنطن. والصين بدأت تتخذ خطوات “تنفيذية” في المشاركة بإدارة العالم، بدءًا من الشرق الأوسط، خطّ التماس التاريخي، وبؤرة الصراعات والنفوذ والنفط والثروات..
“الفكرة” الصينية “تلمع”
هنا لاحت الفكرة لاستقرار يساعد وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على تنفيذ مشروعه الاقتصادي – الاجتماعي – السياسي في بلاده والمنطقة، وسنحت فرصة تاريخية لإيران كي “تبيّض نفوذها في الغسّالة العربية”.
أخذ العربي “الفِيَش” الإيرانية على الشبّاك، ودعا طهران إلى “الشفاء” من القمار العسكري، وكانت جملة “تأكيده الطرفين على احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية”، في البيان الصادر من بكّين في 10 آذار الماضي.
سفير إيران يقول إنّ هذه الجملة “تعني حصراً الدولتين اللتين وقّعتا الاتفاق”، وبالتالي لا تنطبق على أيّ دولة أخرى، من لبنان إلى العراق وسوريا واليمن… وبالتالي فإنّ “حفلة الصواريخ من لبنان وسوريا وغزّة لا علاقة لها بهذا الاتفاق”.
يبدو أنّ شيعة المنطقة بدأوا رحلة الانتقال الطويلة، من “الثورة” إلى “الدولة”. مسؤول وسطي في الحزب يحكي أنّ “الانفتاح السعودي على شيعة السعودية فاجأنا في الحزب. لم نكن نتوقّعه بهذه السرعة”
وما أدراك ما الصين؟
وزير الخارجية الصيني، تشين قانغ، قال لـ”الشرق الأوسط” في 8 أيار الجاري، إنّ “موجة المصالحة بين دول الشرق الأوسط أثبتت أنّ العبث بأمن المنطقة وخدمة المصالح الأنانيّة من خلال إثارة الخلافات وتأجيج المواجهة أمر لن يحظى بالتأييد من قبل الشعوب ولن يدوم”.
هو خطاب “منطقيّ”، يشبه الدور الصيني “اللايت”. ويشبه اللحظة “التصالحيّة” في المنطقة، التي يفترض أنها تطوي عقدين من الحروب والنزاعات والحرب السنّيّة – الشيعية التي طحنت المنطقة وشعوبها.
الجديد ما قاله “متحدّث باسم وزارة الخارجية الصينية”، للمرّة الأولى بهذا الوضوح والجرأة، ردّاً على ما قاله “متحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية” في 10 أيار الجاري من أنّ سوريا لا تستحقّ إعادة قبولها في جامعة الدول العربية. الصيني ردّ بالتالي: “عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية تتناسب مع تطلّعات الشعوب العربية وتفضي إلى قوّة الدول العربية ووحدتها، فضلاً عن تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة… والولايات المتحدة بحاجة إلى احترام تطلّعات شعوب دول الشرق الأوسط والتوقّف عن ممارسة الدبلوماسية القسرية وعن عرقلة الحوار وعملية المصالحة بين دول الشرق الأوسط وعن خلق التوتّرات لتقسيم الشرق الأوسط”.
“كلام كبير”، للمرّة الأولى بهذا العنفوان، في ما يخصّ قضايا الشرق الأوسط والعرب. وكأنّ الصين تدخل لتقول إنّ مظلّة اتفاق بكين، أوسع وأكبر بكثير من مصالحة سعودية – إيرانية، وإنّها ترقى إلى “إعلان” تاريخي بدخول الصين نادي الدول العظمى، شريكاً مضارباً لأميركا في إدارة الشرق الأوسط.
الشيعة: من الثورة.. إلى الدولة
قال سفير إيران في الحوار المذكور أعلاه إنّ “عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، أو عودة العرب إلى سوريا، هو تحسين أكيد لمستقبل المنطقة، بعيداً عن مشاكل الماضي”، وتحدّث عن “حواجز ستواجهنا في الطريق، لكن علينا أن نعبر ليكون الصلح خيراً وتستفيد الشعوب”.
وكشف عن “التزامات غير مكتوبة في الاتفاق الذي وقّعناه في بكين”، وأنّ “أميركا لم تعلم بالاتفاق الصيني إلا متأخّرة، وربّما لم تعلم بتفاصيله”، وأعلن أنّه “سيكون هناك بوادر خير أخرى في المنطقة”.
في الخلاصة، يبدو أنّ شيعة المنطقة بدأوا رحلة الانتقال الطويلة، من “الثورة” إلى “الدولة”. مسؤول وسطي في الحزب يحكي أنّ “الانفتاح السعودي على شيعة السعودية فاجأنا في الحزب. لم نكن نتوقّعه بهذه السرعة”.
إقرأ أيضاً: نهاية الحرب مع العرب… بداية “تحرير القدس”
هذا الانتقال من عقليّة “الخروج على الدولة”، إلى التدرّب على “الحكم”، وأن يكونوا جزءاً من إدارات الدول وأنظمة حكمها، بدأ في لبنان منذ دخول الحزب الحكومة في 2005، وتوَّجه رئيس حكومة العراق محمد شياع السوداني، حليف إيران، لكنّ القريب من العرب، على عكس نوري المالكي الذي كان إيرانيّاً، ومصطفى الكاظمي الذي كان أكثر “أمركةً”.
أيضاً بشار الأسد سيتحوّل إلى “شركة مساهمة”، للعرب حصّة فيها، ربّما أقلّ من إيران، إلى جانب روسيا، والصين قريباً في إعادة الإعمار. وفي اليمن، ستنتهي المباحثات إلى “شراكة سياسية” في الدولة، بين حلفاء إيران وحلفاء السعودية.
هو تبييض للنفوذ، في غسّالة عربية… صُنِعَت في الصين، والأمل أن تكون “باب أوّل”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@