يتّجه الصراع المحتدم على الساحة الأوكرانية نحو التحوّل من صدام ميداني مفتوح إلى نموذج جديد لم تتّضح معالمه بعد، لكنّه يحاكي تسويات عرفتها أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط في أعقاب الحرب العالمية الثانية. فأين يتّجه الصراع الذي حفّزت عليه واشنطن ولندن بوجه فلاديمير بوتين وانضمّت إليه، عنوةً وتحت الضغوط الأميركية، الدول الوازنة في أوروبا الغربية، وتداعت إليه دول حلف وارسو بما يشبه الثأر التاريخي لحقبة بدأت مع مؤتمر يالطا* في شباط 1945 واستمرّت حتى سقوط الاتّحاد السوفيتي وأبعدتها عمّا اعتقدته واحة للديمقراطية الغربية وعن خيرات نظامها الرأسمالي.
أما اليوم فما زال الجميع ينتظر “هجوم الربيع” الذي وعدت به أوكرانيا لتعديل موازين القوى وإخراج القوات الروسية من الأراض التي تحتلّها. لكنّ التوقّعات ليست على مقاس الطموحات التي تحدّث عنها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. بل يبدو المشهد الميداني أكثر تشاؤماً وغير مقنع للأوروبيين للاستمرار في مغامرة غير محسوبة.
يتّجه الصراع المحتدم على الساحة الأوكرانية نحو التحوّل من صدام ميداني مفتوح إلى نموذج جديد لم تتّضح معالمه بعد، لكنّه يحاكي تسويات عرفتها أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط في أعقاب الحرب العالمية الثانية
في واشنطن نفسها، بما هي مركز القرار بالنسبة لمصير الحرب، ثمّة أصوات بدأت تُسمع، ليس فقط في أوساط الجمهوريين، بل من داخل الإدارة أيضاً، ومن داخل القيادات العسكرية، تتساءل عن المدى الزمني الضروري لمواصلة دعم القوات الأوكرانية بالأسلحة النوعية الثقيلة والذخائر، وعن أهداف الحرب وظروف الجلوس إلى طاولة المفاوضات وكيفية الوصول إلى نهايتها.
لا بدّ من التذكير بما صرّح به الجنرال مارك ميلي، رئيس أركان القوات الأميركية خلال الشتاء الماضي: “لا أعتقد أنّ القوات الأوكرانية قادرة على استعادة الأراضي التي احتلّتها روسيا في المدى القريب”.
كما أنّ هناك مؤشّرات عدّة إلى بداية تحوُّل في الرأي العامّ داخل الدول الأوروبية المركزية، حيث الوضع الاقتصادي يزداد تأزّماً، وما من بوادر تحسُّن في الأفق القريب. ويتزايد الشعور بأنّ أوروبا تدفع ثمن الحرب بينما الولايات المتّحدة تجني ثمارها. إضافة إلى أنّ الهجوم المضادّ الأوكراني في حال إخفاقه سيفرض واقعاً جديداً لا يمكن تجاوز نتائجه.
واقعيّة أوروبيّة تستجد بالصين..
عرضت الصين مبادرتها المؤلّفة من 12 بنداً لوقف الحرب في أوكرنيا، وقوبلت الدعوة في حينه بردود فعل أوروبية شكّكت بأنّها ليست جدّيّة من جهة، ومتحيّزة لروسيا من جهة أخرى، لأنّها لم تنصّ على انسحاب روسي غير مشروط من الأراضي الأوكرانية بما في ذلك شبه جزيرة القرم والاعتراف بسيادة كييف عليها.
كان لباريس موقف آخر: اعتبرت أنّ ما تعرضه بكين يمكن أن يشكّل “قاعدة للنقاش”. وقد سعى الرئيس إيمانويل ماكرون خلال زيارة الدولة التي قام بها لبكين بداية نيسان الماضي ليدفع نظيره الصيني إلى مزيد من الانخراط في ملفّ الحرب الروسية على أوكرانيا، أوّلاً لقناعته بأنّ الرئيس شي جينبينغ هو الوحيد القادر على التأثير على الرئيس بوتين، وثانياً لاستباق أيّ قرار صيني بتوفير الدعم العسكري للقوات الروسية، لِما له من تأثير على مجريات الحرب.
يتّضح ممّا يدور اليوم في أروقة الدبلوماسية الغربية أنّ المواجهة العسكرية لم تعُد الخيار المفضّل لدى حلفاء كييف، وأنّ باريس لم تعُد وحيدة في موقفها من المبادرة الصينية. فقد انضمّت إليها كلّ من ألمانيا وبريطانيا بعدما طالبتا بكين على نحو واضح بالانخراط بشكل أوسع في البحث عن حلّ سلمي يمرّ عبر مفاوضات يتعيّن على الصين أن تلعب فيها دوراً رئيسياً.
وفيما شدّدت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا في التاسع من الشهر الحالي خلال جلسة لمجلس الوزراء على دعوة الصين إلى استخدام علاقاتها مع روسيا من أجل العودة إلى السلام وليس الاستمرار في الحرب، التقت نظيرتها الألمانية أنالينا بيربوك المنتمية إلى “حزب الخضر”، التي كانت الأكثر تشدّداً إزاء روسيا والأكثر اندفاعاً نحو تزويد أوكرانيا بالأسلحة، وزير خارجية الصين كي غانغ في برلين خلال الأسبوع الحالي، وأشارت، بحضوره، إلى أنّ “الصين تستطيع أن تلعب دوراً مهمّاً لوضع حدّ للحرب في حال رغبت بذلك”، مضيفةً في ما سمّته “رسالة أوروبية إلى بكين”، أنّ الصين بوصفها عضواً دائماً في مجلس الأمن “لا تتمتّع فقط بحقوق وإنّما تترتّب عليها واجبات”. وكان ردّ الوزير الصيني أنّ بلاده “بصفتها واحدة من الدول ذات العضوية الدائمة بمجلس الأمن، ودولة كبرى تتحلّى بالمسؤولية، لن تكتفي بالوقوف موقف المتفرّج، لكنّها لن تصبّ الزيت على النار”.
يدرك الرئيس جو بايدن اليوم كما أدرك تشرشل وروزفلت في اتفاقية يالطا، أنّ مئات الألوف من الجنود الروس الموجودين في أوكرانيا والقرم وبيلاروسيا يفوق عددهم الجنود الغربيين، وليس ثمّة شيء يمكن أن تفعله واشنطن ولندن إذا أراد بوتين الإبقاء على قواته هناك
لندن تنضمّ إلى باريس
بدورها تبدو لندن كما لو أنّها تضع في الاعتبار ما يمكن أن تقوم به وساطة بكين. فقد صرّح وزير خارجيّتها جيمس كليفرلي، في مطلع الأسبوع الحالي خلال وجوده في واشنطن، بأنّه يرحّب “بالتدخّل الصيني الذي قد يصل بهذه الحرب إلى نتيجة عادلة ومستدامة”، مضيفاً أنّه “يجب أن لا نعرقل هذا الأمر، نحن نعلم أنّ شي جينبينغ يتمتّع بدرجة كبيرة من التأثير على بوتين، وإذا كان بإمكانه استخدام هذا النفوذ لتنفيذ ما صرّح به علناً فلماذا ننتقد هذا التدخّل إذا كان ذا مغزى؟”.
والحال أنّ واشنطن اليوم هي أكثر اتّساقاً مع الموقف الأوروبي الجديد، بعد موقفها السلبي من خطة السلام الصينية. فخلال الاحتفال باليوم العالمي لحرّية الصحافة في 3 أيار أعلن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أنّه “من حيث المبدأ، لا حرج إذا كانت هناك دولة، سواء كانت الصين أو دول أخرى لها تأثير كبير، مستعدّة للسعي إلى تحقيق سلام عادل ودائم. نحن نرحّب بذلك، ومن الممكن بالتأكيد أن يكون للصين دور تلعبه في هذا الجهد”.
قد يكون في ما أوردته مجلّة نيوزويك الأميركية حول مقابلة أجرتها قناة “سي بي إس” مع وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر جاء فيها أنّ “الحرب الروسية الأوكرانية تقترب من نقطة تحوّل، ويتوقّع إجراء مفاوضات سلام بين روسيا وأوكرانيا بحلول نهاية العام بفضل الجهود الأخيرة التي بذلتها الصين”، أكثر من توصية للإدارة الاميركية وأكثر من مؤشّر إلى مسار الصراع في أوكرانيا.
نحو يالطا جديدة
ربّما لا تقدّم التطوّرات على الأرض ما يكفي من المؤشّرات إلى مرونة لدى موسكو أو كييف لإطلاق مسار سياسي، لكنّ الظروف الدولية تبدو أكثر نضوجاً حيال فرص الوساطة الصينية، كما أنّ إقدام بكين على مثل هذه الخطوة سيعتمد على تقويمها لمدى استعداد الغرب، وبخاصة الولايات المتّحدة، للتحرّك بشكل إيجابي نحو التسوية.
يقارب المشهد الأوكراني إلى حدّ بعيد الظروف التي سبقت “اتّفاق يالطا” الذي عُقد في شباط 1945. يبحث بوتين اليوم عن منطقة عازلة تحمي روسيا كما كان يبحث جوزف ستالين في حينه عن منطقة عازلة لحماية الاتّحاد السوفيتي، ويريد بوتين تقسيم أوكرانيا لضمان عدم تشكيلها مصدر تهديد لبلاده في المستقبل كما أراد ستالين بالأمس تقسيم ألمانيا للهدف نفسه. وربّما يشكل ذلك نقطة التقاء أساسية مع واشنطن.
إقرأ أيضاً: هجوم على الكرملين في الوقت الأميركيّ الضائع
من جهته يدرك الرئيس جو بايدن اليوم كما أدرك تشرشل وروزفلت في اتفاقية يالطا، أنّ مئات الألوف من الجنود الروس الموجودين في أوكرانيا والقرم وبيلاروسيا يفوق عددهم الجنود الغربيين، وليس ثمّة شيء يمكن أن تفعله واشنطن ولندن إذا أراد بوتين الإبقاء على قواته هناك.
يقول ميلفين ليفلر، أستاذ التاريخ في جامعة فرجينيا، إنّ “ما فعله مؤتمر يالطا، في ما يتعلّق بأوروبا الشرقية، كان بمنزلة إقرار بموازين القوى الموجودة على الأرض”. فهل تأخذ الوساطة الصينية أوكرانيا ومعها أوروبا والولايات المتّحدة إلى “يالطا جديدة”.
* مؤتمر يالطا هو اتفاقية وقعها الرؤساء روزفلت وستالين وتشرشل ونصّت على تقسيم ألمانيا بين الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفياتي وفرنسا، ووضعت دول أوروبا الشرقية تحت سيطرة الإتحاد السوفياتي ضمن ما سمي لاحقاً بـ”حلف وارسو” لتشكل منطقة عازلة لحمايته. كما تضمن الإتفاق على إنشاء منظمة الأمم المتحدة للحفاظ على الأمن والسلام والدوليين.
*مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات