يدشّن مصرف لبنان مطلع الشهر المقبل قطاعاً مصرفياً جديداً، ويدخّل القطاع القديم إلى المستودع، بكلّ ما فيه من ودائع وأصول هالكة.
بموجب التعميم رقم 165 الذي أصدره مصرف لبنان الشهر الماضي، تنتهي اليوم الأربعاء المهلة للبنوك لفتح حسابات جديدة لديه بالليرة والدولار، ستكون مخصّصة حصراً لإجراء عمليات مقاصة الشيكات والتحاويل الخاصة بالأموال “الفرش” المسمّاة “الأموال النقدية”، والتي يعرّفها البنك المركزي بأنّها الأموال التي تلقّتها البنوك بعد تاريخ 17 تشرين الثاني 2019، إمّا عن طريق إيداعات نقدية، وإمّا عن طريق تحويلات من الخارج.
الحسابات الجديدة تؤذن بتأسيس قطاع مصرفي جديد تسري عليه قواعد مختلفة عن القطاع القديم، إذ سيتمّ إصدار دفاتر شيكات خاصة تُستخدم حصراً للسحب من الحسابات الجديدة، وستتمّ إضافة كلمة “Fresh” باللون الأخضر مطبوعة على الشيكات الخاصة بالأموال الجديدة، لتمييزها عن الشيكات الأخرى التي ستظلّ تُستخدم لتصفية الودائع القديمة، بقدر ما تسمح به المحفظة الباقية من القروض، إلى أن تصبح عديمة القيمة.
يدشّن مصرف لبنان مطلع الشهر المقبل قطاعاً مصرفياً جديداً، ويدخّل القطاع القديم إلى المستودع، بكلّ ما فيه من ودائع وأصول هالكة
سيقوم مصرف لبنان بإجراء عمليات مقاصة يومية للشيكات الجديدة بشكل منفصل، لتصبح هي عماد الحركة الاقتصادية المتجاوزة لتركة الماضي، بل إنّ البنوك تطلب من شركة “سويفت” العالمية إضافة رمز تعريفي إضافي للأموال الجديدة (DLP) لتمييزها عن الودائع القديمة، وسيتمّ إصدار بطاقات جديدة للدفع لا شكّ أنّ التعامل بها سيكون مختلفاً تماماً في نقاط البيع. وحتى الرسوم على الخدمات سيُصدر مصرف لبنان قائمة جديدة بها.
مؤدّى هذا التنظيم أن ينشأ قطاع مصرفي جديد تخرج معه البنوك من الأزمة ويبقى أصحاب الودائع، ليصبح البحث في قضيّتهم ملفّاً هامشياً من الماضي، لا يعطّل حركة القطاع.
يشبه الأمر ما حصل مع المالكين القدامى من قبل، إذ بات هناك قطاع تأجير عقاري حرّ وقطاع جامد منذ عقود، ويُعتبر البحث في حلول له مهمّة مملّة للحكومات ومجالس النواب منذ التسعينيات.
“حجّة”… حاجة الاقتصاد
يتسلّح مصرف لبنان، مبدئياً، بحجّة مفادها أنّ الاقتصاد بحاجة إلى نظام مصرفي فاعل (functional) ليعود إلى الدوران. فمنذ اندلاع الأزمة تحوّلت البلاد إلى الاقتصاد الورقي، وظهرت البدع العجيبة، من نوع دفع نصف الفاتورة بالبطاقة والنصف الآخر نقداً، وتحوّلت الكثير من وظائف القطاع المصرفي إلى بنوك الظلّ، وخصوصاً شركة OMT التي غطّت عجز القطاع بإصدارها البطاقات شبه المصرفية. بل إنّها كانت تحضّر لإطلاق بنك رقمي، لكنّها أرجأت الخطوة إلى أن تتوافر ظروف مناسبة.
إلا أنّ خطوة مصرف لبنان تحمل إشكالات عملية وأخلاقية. الإشكال الأخلاقي الأكبر يكمن في القفز فوق الحاجة إلى إعادة هيكلة القطاع. من الواضح الآن أنّ البنوك تجد طريقاً للخروج من الأزمة، فيما تترك المودعين في الحفرة.
من المفهوم أن يتمّ فصل أصول القطاع المصرفي بين أصول جيّدة وأصول رديئة، لكنّ ما يجري في لبنان عكس الطبيعة وعكس الأخلاق.
في الولايات المتحدة مثلاً، تمّ قبل أيام حلّ مشكلة بنك “فيرست ريببلك” على أساس بيع الأصول الجيدة لمصرف “جي بي مورغان” مقابل أن تُنقل إليه الودائع بكاملها التي كانت تربو على مئة مليار دولار، من دون أيّ “هيركت”، مع مساهمة هيئة ضمان الودائع الفدرالية في تحمّل خسائر بنحو 13.5 مليار دولار، وأمّا المساهمون فخسروا كامل أموالهم. وقد حصل شيء مشابه من حيث القاعدة المبدئية في بنك سيلكون فالي ومصرف كريدي سويس قبل أسابيع.
يشبه الأمر ما حصل مع المالكين القدامى من قبل، إذ بات هناك قطاع تأجير عقاري حرّ وقطاع جامد منذ عقود، ويُعتبر البحث في حلول له مهمّة مملّة للحكومات ومجالس النواب منذ التسعينيات
إذاً المبدأ هو فرز أصول البنك ما بين جيّد وما هو رديء، واستخدام الأصول الجيّدة كقاعدة صالحة لإعادة الهيكلة. أمّا المساهمون فمن غير المقبول أن يبقى لهم دولار واحد قبل أن يستعيد المودعون كامل أموالهم. هذا هو المبدأ العالمي الذي تعتمده كلّ الحكومات والهيئات الرقابية والمؤسّسات الدولية، ومنها صندوق النقد الدولي، في تراتبية تحمّل الخسائر.
أمّا في لبنان فجرى العكس، فبدلاً من فرز الأصول الجيّدة والحفاظ عليها كقاعدة لإعادة الهيكلة، تواطأ البنك المركزي مع البنوك لقلب الطاولة.
الخطأ الكبير… بحقّ المودعين
كانت أصول البنوك في بداية الأزمة تتوزّع على ثلاثة مكوّنات: ديون الدولة (اليوروبوندز)، والإيداعات لدى مصرف لبنان، والقروض للقطاع الخاص. انهار المكوّنان الأوّلان مع تعثّر الدولة وتوقّف مصرف لبنان عن السداد، وظلّت محفظة القروض للقطاع الخاصّ (أفراداً وشركات) الجزء الوحيد الصالح للاستخدام في إعادة الهيكلة، خصوصاً أنّها مدعومة بضمانات بعشرات مليارات الدولارات.
كانت محفظة قروض البنوك بالدولار تقارب 45 مليار دولار في بداية الأزمة، وكانت تكفي لبدء إعادة هيكلة معقولة تعيد نصف أموال المودعين على الأقلّ، وتضمن الودائع التي تقلّ عن 250 ألف دولار بالكامل. لكن، بفعل فاعل، تمّت تصفية أكثر من 75% من هذه المحفظة عبر السداد على سعر الصرف الرسمي 1500 ليرة أو عبر تجارة الشيكات، والبنوك تزعم أنّها تتحمّل الخسارة ولا حيلة لها في ذلك.
السؤال المركزي هنا: هل تعود البنوك للإقراض بـ”الأموال النقدية” الجديدة؟ وبأيّ سعر فائدة؟ وإذا عادت فهل تقبل السداد بالشيكات القديمة؟ وهل تقبل السداد على سعر الصرف الرسمي؟
منطقياً، يُفترض أن يُصدر مصرف لبنان تعميماً للتمييز بين الإقراض الجديد والإقراض القديم، وسيمنع سداد القروض الدولاريّة على سعر الصرف الرسمي، وعندها سيتّضح أنّ البنوك لم تكن عاجزة عن تصفية محفظة القروض، بل كانت تتواطأ في لعبة تصفيتها لأنّها جزء من لعبة تهريب الضمانات المرهونة مقابل القروض، ولأنّها كانت تريد التخلّص من أكبر قدر ممكن من الودائع. ففي واقع العملة، كلّ دولار من القروض يكفي للتخلّص من عشرة دولارات من الودائع، وهذه معادلة ملائمة للبنك.
إقرأ أيضاً: نسخة محدّثة من “خطّة الإنقاذ”: قطع الكهرباء عن ثلاجة “ألبان” المودعين..
إلى جانب الإشكال الأخلاقي، هناك إشكال محاسبيّ كبير في التعامل مع المعايير الدولية IFRS. إذ كيف سيتحوّل البنك المفلس إلى بنك رابح من دون حسم مصير الودائع القديمة؟ إذا كانت البنوك ستميّز في تعاملاتها بين “الأموال النقدية” الجديدة والأموال القديمة، فكيف ستعيد بناء ميزانياتها العمومية على هذا الأساس؟ هل تفصل قائمة المطلوبات القديمة عن الجديدة؟ وبأيّ فتوى محاسبية وأخلاقية ستفعل ذلك؟ احتاج النواب إلى فذلكات عجيبة لتجنّب هذا التمييز في مشروع قانون الكابيتال كونترول بلا طائل، فكيف سيحلّ مصرف لبنان هذه المعضلة؟
هناك من يتكهّن بأنّ التعميم 165 ليس إلا التوطئة لتشريع شطب الودائع القديمة بحكم الأمر الواقع، من دون الحاجة إلى خطة حكومية أو تشريع في مجلس النواب. ولا أحد يعبأ بكون ذلك مخالفاً للدستور والقوانين. فالبلد الذي سمح بتشريع “صيرفة” وما اعتراها من تربّح منظّم يمكن أن يمرّ فيه أيّ شيء بتعميم من حاكم بأمره.