يعبّر حراك السفير السعودي وليد بخاري عن بوصلة لرصد مزاج الرياض بشأن لبنان. والحراك يشمل الصمت والغياب عن المشهد كما التصريح واحتلال المشهد كلّه. وفي كلّ تفصيل وكلمة وإيماءة يمكن استقراء ما هو ثابت ومتحوّل وما هو تقليدي أو مستجدّ في رؤية السعودية للبنان وسياستها داخله.
تنفي هذه الدينامية ما قد يُسرّب عن عدم اهتمام المملكة بالشأن اللبناني. صحيح أنّ تحوّلات المملكة قلبت سلّم الأولويات وجعلت من اقتصاد البلد وموقعه الجيوستراتيجي الدولي مسائل تستهلك الجهد وتستدرج استثمارات كبرى في السياسة وعلم قراءة العالم، لكنّ للبنان مكانة في الوعي الجمعيّ السعودي كما في قراءة الرياض لخرائط الإقليم.
يروي مرجع سياسي لبناني أنّ مواطنين سعوديين كان يتصادف اللقاء بهم في رحلاته إلى الخارج كانوا يستوقفونه عاتبين على اللبنانيين “حرمانهم من لبنانهم”. ففي ذاكرة السعوديين لبنان الذي عرفوه واعتادوا زيارته وأحبّوه وبات في مراحل كثيرة جزءاً من ثقافة وتقاليد عيشهم. وتروي شهادات أخرى مقدار اهتمام المواطن السعودي بتفصيلات الحياة السياسية في لبنان وانخراطه الكامل من خلال وسائل الإعلام في تتبّع المواقف والشخوص والأمزجة التي تتحكّم بيوميّات البلد وكأنّها شأن شخصي يعنيه كما يعني أيّ مواطن لبناني.
يعبّر حراك السفير السعودي وليد بخاري عن بوصلة لرصد مزاج الرياض بشأن لبنان. والحراك يشمل الصمت والغياب عن المشهد كما التصريح واحتلال المشهد كلّه
ما يصدر عن سفير المملكة في لبنان كما عن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أو حتّى عن وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، يوحي بأنّ لبنان ليس مغيّباً عن رادارات السعودية. بل إنّ في ما دخل من دفق ورشاقة على إدارة السياسة الخارجية للمملكة منذ تبوّؤ الملك سلمان بن عبد العزيز عرش البلاد ما يفسّر ذلك التبدّل في الكيفية التي تتعامل بها الرياض مع شؤون بيروت.
إيران تقلّد السعودية
يكرّر السفير بخاري التعبير عن أجواء سياسية سعودية سبق لوزير الخارجية السعودي أن عبّر عنها بمعادلة حذقة لمّاحة: “المشكلة ليست مع لبنان بل في لبنان”. ووفق ذلك الاستنتاج يقوم موقف الرياض وسفيرها في بيروت على ثابتة مفادها أنّ المعضلة لبنانيةٌ ومعالجتها لبنانية وباتفاق اللبنانيين. ولئن تطلّ من ذلك الموقف طوباوية سياسية لا تشبه علم المصالح الذي تقوم عليه العلاقات بين الدول، إلا أنّ ما يشبه “النأي بالنفس” من مسألة انتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان هو بحدّ ذاته موقف يُفترض أن يحثّ الأطراف اللبنانية على تموضع لبناني آخر يفرض نفسه ويحظى برعاية ودعم السعودية وكلّ أصدقاء لبنان.
تستعير إيران في تناولها الجديد للشأن اللبناني الوصفة السعودية لمخاطبة اللبنانيين. صحيح أنّ تلك الاستعارة تبدو مصطنعة طارئة ركيكة عصيّة على التصديق، غير أنّ ما يصدر من طهران أو حتى ما صدر من بيروت على لسان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان من “عدم تدخّل” في شؤون لبنان وصولاً إلى أنّ أمر الرئاسة “شأن لبناني” وأنّ طهران داعمة لـ “توافق اللبنانيين”، يعبّر عن محاولة لتخاطب جديد مع لبنان على الأقلّ في الشكل الذي يغيب عنه أيّ مضمون.
يمثّل لبنان ميداناً لاختبار العلاقات بين الرياض وطهران. طبعاً العراق وسوريا واليمن ميادين مباشرة أيضاً، ناهيك عن ميادين أخرى في الأمن والدفاع والطاقة. غير أنّ لبنان، وبخلاف بقيّة ميادين التماسّ، يمثّل مؤشّراً مكشوفاً إلى تطوّر أو تراجع العلاقات السعودية الإيرانية عامّة وميدان اشتباك ولو بالقوّة الناعمة بين البلدين.
رُسل إيران في لبنان الذين حملوا الدعم والاهتمام والوعود كانوا سبقوا رحلة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الأخيرة (3-5 أيار الجاري) إلى دمشق بما يراكم مزيداً من الظلال الإيرانية على لبنان
سواء في حراك السفير السعوي في لبنان وتجواله على قادة البلد السياسيين والروحيين وطرق أبواب لبنانية جديدة، أو في حراك الإيرانيين صوب لبنان في زيارة رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية كمال خرازي في آذار الماضي أو عبد اللهيان في نيسان، فإنّ الأمر شكلٌ من أشكال الاختبار والتجريب لِما تمخّض عنه الاتفاق السعودي الإيراني في 10 آذار الماضي وعملت الصين على السهر على بنائه ورعايته. وواضح من خلال “الأداء اللبناني” للطرفين من داخل سطور الاتفاق تجنُّب طهران والرياض صداماً مباشراً في لبنان لا مصلحة فيه للاتفاق ولا فائدة منه للبنان نفسه.
لبنان في العيون السورية
غير أنّ رُسل إيران في لبنان الذين حملوا الدعم والاهتمام والوعود كانوا سبقوا رحلة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الأخيرة (3-5 أيار الجاري) إلى دمشق بما يراكم مزيداً من الظلال الإيرانية على لبنان. ولئن قد يُفهم من همّة الرئيس الإيراني مداراة جهد عربي تقوده الرياض باتجاه دمشق، فإنّه مهما برع رئيسي في استخدام صيغ كلامية ومعادلات أبجدية لا تزعج نصّ بكين السعودي الإيراني، إلا أنّ تأكيده والرئيس السوري بشّار الأسد على حلف بلدَيهما الاستراتيجي وعدم تأثّره بـ”التحوّلات”، يُراد منه التذكير بالنفوذ الذي تمتلكه طهران في سوريا التي لطالما كانت أصداء أجراسها تُسمع جيّداً في لبنان.
وفق تلك الحقائق تراقب العواصم البعيدة المعنيّة، ولا سيّما واشنطن وباريس، تداعيات ذلك الاشتباك المكتوم بين الرياض وطهران بشأن لبنان. ووفق تلك الحقائق تبدو هذه العواصم عاجزة عن تحريك أيّ بيادق تنهي حالة الستاتيكو التي تمنع انتخاب رئيس للجمهورية. حتى إنّ فرنسا اكتشفت فجأة أن ليس لها مرشّح لهذا المنصب، فيما واشنطن تعجّل بالإطلالة على الاشتباك بالدعوة إلى انتخاب رئيس “غير فاسد” للبنان. وإذا كانت طهران تحذو حذو الرياض في الاعلان عن احترامها توافق اللبنانيين، فإنّ العواصم البعيدة تستنتج أنّ هذا التوافق البيتيّ المطلوب مستحيل من دون توافق سعودي إيراني.
إقرأ أيضاً: إيران والعرب.. هُدَن اضطراريّة لا مصالحات دائمة
تعرف الرياض وطهران ذلك، وتدركان في الوقت عينه حساسيّة خلافهما في بيروت وما قد يُلحقه بتوافقهما في بكين. والواضح أنّ التفاهم ما زال يحتاج إلى وقت ومداولات وتحديثات تستلزم مناورات نشهد فصولها في لبنان وسوريا لتخصيب أيّ صفقة في لبنان. غير أنّ موقف السعودية في لبنان ينهل أيضاً من أجواء إنزال دبلوماسي دفعت به واشنطن رئيس مجلس النواب ومستشار الأمن القومي ووزير الخارجية على التوالي إلى الرياض، كما الشراكة الأميركية السعودية في السودان التي أنتجت “مبادرة” أطاحت حتى إشعار آخر بكلّ المبادرات.