يوم سَبَحَ الحوت… في “العيون الضيّقة”

مدة القراءة 3 د

بعد يوم عملٍ شاقٍّ وطويل، لذتُ إلى المقهى بعد الظهر لأرتشف فنجان قهوة مُرّة (مثل عيشتنا الضنك) مع نَفَس أرجيلة عجميّ “عرمرمي” على عادتي التي أمارسها منذ سنوات.

سحبت كرسيّاً وجلست في مكاني المعتاد، حيث كان أبو محمود يقرأ واحدة من الصُحُف الورقية المحليّة (أنا أقرأ أونلاين) ويُومىء برأسه صعوداً ونزولاً، ثمّ يردف هذه الإيماءات بـ”نخعات” يُمنة ويُسرى، كأنّ الشياطين تتنطّط من بين صفحات تلك الصحيفة.

حشريّتي تغلّبت عليّ، فسألته: “شو يلّي مش عاجبك بهالجريدة يا أبا محمود؟ ليش عم تتلمّط؟”.

لم أُنهِ سؤالي هذا، حتى أطلق العنان لـ”باجوقه” قائلاً بصوت مرتفع مع “تمغيطة” على الطريقة البيروتية المعهودة: “الحوووووووت. تعا شفلك ملّا تكريم عامله للّواء عباس إبراهيم… وقتو هالكلام؟”.

بعد يوم عملٍ شاقٍّ وطويل، لذتُ إلى المقهى بعد الظهر لأرتشف فنجان قهوة مُرّة (مثل عيشتنا الضنك) مع نَفَس أرجيلة عجميّ “عرمرمي” على عادتي التي أمارسها منذ سنوات

فأردفته بسؤال آخر: “وإنت شو طعجك؟ ما عزموووووك؟”.

أجاب: “يا أبو زهير البلد منهار والناس مش عم تلاقي تاكل… شوية منطق كمان!”.

هنا تنحنحت وعدلت جلستي على ذاك الكرسي الخيزران، وسألته: “أبو محمود. الزلمي يلّي دبّرلك محمود بالوظيفة، شو عملت معو هيديك الخَطرة؟… ذكّرني لشوف”.

عاجلني بالقول: “شو علاقة طزّ بمرحبا؟”.

أجبت: “خلّيك معي وكمّل للآخر”.

تلعثم قليلاً ثمّ قال: “عزمناه على أكلة سمك… كلّفتني 100 دولار”.

ثمّ أكملت: “أها. وظيفة بـ200 دولار بالشهر، دفعت بنخوتك حتى تبظّ 100 دولار بالمطعم؟ جدّ عينك ضيّقة!”… ثمّ رحت أروي لأبي محمود كيف استطاع عباس إبراهيم أن يحصل لشركة طيران الشرق الأوسط على إذن من نظام “البراميل المتفجّرة” في حينه من أجل مرور طائراتها فوق الأراضي السورية، وكيف استطاع هذا الإذن على مدى سنوات الأزمة السورية أن يوفّر قرابة 500 مليون دولار ثمن وقود على الشركة بفضل تقصير مسار رحلات الطيران، وثمن تذاكر على المسافرين واللبنانيين المغتربين الذين يرفدون أبا محمود وأترابه بالدولارات الفريش.

أخبرته أنّ هذه التفاصيل لا تحبّ الناس أن تراها، لكنّها تتوقّف عند صغائر الأمور وسفاسفها. أخبرته أيضاً ما لم يعرفه كثيرون، وهو أنّ أغلب الأطعمة والمأكولات التي قرأ عنها أبو محمود أو ربّما شاهد صورها على شاشات التلفزة، هي تقدمة من مطعم “سقراط”، حسبما علمت، بينما الحلويات والكاتو والعصائر من صناعة الـcatering في الشركة نفسها.

بعد هذا الشرح المفصّل، أطبق على أبي محمود صمتُ القبور (الباشورة والشهداء)، فعاجلته بخلاصة أخرى على شكل سؤال إضافي: “يعني عزومة 300 شخص ربّما لم تتعدَّ كلفتها 10 آلاف دولار، أي ما يوازي 0.002% من قيمة ما وفّرته الشركة والمسافرون… هلقد عينك ضيّقة؟”.

إقرأ أيضاً: موسوعة الرُهاب… في وَصفِ “الأحباب”

كلامي لم يعجب أبا محمود الذي رمقني رمقة من طرف عينيه، ثمّ قال لي: “إيه وعلى شو هالدفاع؟ شكلك كنت معزوم”.

لففت نبريج الأرجيلة حول عنقها وقمت عن الكرسي، وقلت له: “لا إنت الصادق… اسمي سقط سهواً”. ثمّ ولّيت مدبراً صوب منزلي الزوجي لأتمسّى بـ”خلقة” أمّ زهير حبيبة قلبي.

وإن شاء الله بموت إذا كنت عم أكذب.

*هذا المقال من نسج خيال الكاتب

لمتابعة الكاتب على تويتر: abo_zouheir@

مواضيع ذات صلة

الحروب ليست حلّاً…  

عالم الحروب اليوم أعمق وأخطر، وقد وصل إلى قلب أوروبا بهجمة روسيا على أوكرانيا عام 2022 التي استمرّت حتى اليوم. وكأنّما كانت إسرائيل تنتظر مسوِّغاً…

“الحزب” يتموضع مسبقاً شمال اللّيطاني؟

يتحضّر “الحزب” لـ”اليوم التالي” للحرب. لا يبدو أنّ بقيّة لبنان قد أعدّ عدّة واضحة لهذا اليوم. يصعب التعويل على ما يصدر عن حكومة تصريف الأعمال…

كيف استفاد نتنياهو من تعظيم قدرات الحزب للانقضاض؟

كلّما زار آموس هوكستين بيروت في الأشهر الماضية، كان المسؤولون اللبنانيون وبعض المتّصلين به من السياسيين يسرّبون بأنّها “الفرصة الأخيرة”. لكنّه ما يلبث أن يعود،…

نتنياهو هزم الجنرالات…

ما حكاية الخلاف الشديد بين بنيامين نتنياهو وجنرالات الجيش والأمن في إسرائيل؟ لماذا يبدو أبطال الحرب أقرب إلى التسويات السياسية مع الفلسطينيين، بل مع حلّ…