بعد مطالبات تبنّاها نوّاب بتفصيل خطّة الحكومة من أجل إعادة الودائع المحتجَزة في المصارف، خرجت الحكومة بما يشبه “الخطة” وسلّمتها إلى مجلس النواب، ثمّ تكفّل مستشار رئيس الحكومة سمير الضاهر بنشرها في الإعلام من باب “جسّ النبض”، والتماس ردود فعل الرأي العامّ عليها.
الخطة، إن صحّت تسميتها على هذا الشكل، استُهلّت بعرض أرقام تطرح الكثير من علامات الاستفهام، وخصوصاً تلك التي تخصّ المبالغ التي صرفتها السلطات المتعاقبة من أموال المودعين. وحاولت الخطة الدخول في بنية الودائع وعدم أخذها “بالجملة”، مثلما حصل سابقاً، فوصلت إلى خلاصة مفادها أنّ الودائع القابلة للاستعادة هي قرابة 70 ملياراً من أصل 93.5 مليار دولار.
لكن من ضمن المليارات الـ70، ثمّة “تشطير” إضافي لا بدّ من الخوض فيه. إذ تكشف الخطة للمرّة الأولى أنّ حجم الودائع القابلة للدفع ضمن سقف 100 ألف دولار، حجمها 21.8 مليار دولار فقط. بينما الودائع غير المؤهّلة للدفع هي 22 مليار دولار (ما سيُدفع أقلّ ممّا سيُشطب أو يُحوّل إلى الليرة). تشير الخطة أيضاً إلى أنّ ثمّة 5 مليارات من أصل الودائع هي عبارة عن فوائد، و5 أخرى “غير موثوقة” المشروعيّة، وهناك 4 مليارات ستُحوّل طوعاً إلى الليرة اللبنانية بناءً على طلب أصحابها إن شاؤوا (سقف التحويل لمجمل الودائع 4 مليارات)، إضافة إلى 12 ملياراً ستُحوّل إلى أسهم وحقوق في المصارف.
أهمّ ما في الخطّة أنّها تكشف حجم الودائع (93.5 ملياراً) مقارنة بأصول القطاع المصرفي السليمة والباقية (21 ملياراً)، أي ثمّة فجوة تُقدّر بنحو 72.5 ملياراً. أمّا إذا اعتمدنا ما تخطّط الحكومة لاسترداده، أي 70 مليار دولار، فتبلغ الفجوة نحو 49 مليار دولار، وهو أساس الأزمة بين المصارف والمودعين من جهة، وبين الدولة (السلطة) التي ما زالت حتى اللحظة تميّع مسألة مشاركتها في تحمّل المسؤولية عن هذه الأزمة.
ما يحتاج إليه القطاع المصرفي في هذا التوقيت بالذات، فهو بحسب فحيلي: “الإنقاذ والتعافي”، ومن بعدهما يمكن التفكير في إمكانية تطويره أو البحث في سبل نموّه وازدهاره
تسأل الخطّة نفسها: “ماذا فعل مصرف لبنان بالدولارات؟”، ثمّ تجيب أنّ مجمل انكشاف المصارف لدى مصرف لبنان هو 85.2 مليار دولار، مفصّلةً إيّاها بالأرقام. وإذا استثنينا من تلك الأبواب الهندسات المالية التي استفادت منها المصارف (20 ملياراً) وسندات اليوروبوند (5.2 مليارات) والقروض السكنية المدعومة باعتبار أنّ ثمّة من يتّهم المصارف وأزلام السلطة بالاستفادة منها، فإنّ المبلغ الباقي هو قرابة 55 مليار دولار صرفها مصرف لبنان على:
1- دعم سعر الصرف (35 ملياراً)، وهو رقم عشوائي لا يحدّد من أين بدأ ومتى ينتهي!
2- تمويل الدولة والكهرباء (10 مليارات)، وهو رقم هزيل جداً وغير واقعي، إذ إنّ أغلب الترجيحات تتحدّث عمّا يفوق 30 مليار دولار لدعم هذا القطاع. كما أنّ الخطة لم تتوخَّ المساواة بينها وبين المودعين، خصوصاً حينما قرّرت شطب الفوائد المستحقّة على الودائع، لكنّها لم تكلّف نفسها وضع “فوائد” على المبلغ الذي صرفته على قطاع الكهرباء.
3- التوظيفات الإلزامية الباقية (10 مليارات). حتى هذا الرقم ليس أكيداً، ولا يمكن التحقّق منه عبر أرقام مصرف لبنان أو تصريحات حاكمه (بعض المصادر تتحدّث عن وجود 3 مليارات دولار فقط، وهي كلّ ما بقي).
عليه، وبمعزل عن الملاحظات على هذه الأرقام، فإذا اعتبرنا أنّ التوظيفات الإلزامية ما زالت موجودة، وأنّ أرقام دعم الكهرباء وسعر الصرف صحيحة، فإنّ فارق الفجوة بين أصول المصارف وحجم الودائع “المؤهّلة” للدفع، شبه متطابق مع ما تُطالب به جميعُ الأطراف الدولةَ (السلطة) بتحمّله، ولا يشوبه أيّ غبن أو هضم لحقوق “الأجيال الصاعدة” مثلما يحاول بعض الخبراء إخبارنا في معرض دفاعهم عن الدولة وأصولها!
إعادة الانتظام للقطاع المصرفيّ
أمّا لناحية إعادة الانتظام للقطاع المصرفي، فلم تطرح الخطة أيّ جديد، وهو ما دفع بخبير المخاطر المصرفي الدكتور محمد فحيلي إلى وصفها بأنّها “تُفقد القطاع المصرفي اللبناني ما بقي له من كرامة وفعاليّة”.
يعتبر فحيلي أنّ العرض المبالَغ فيه للأرقام يهدف إلى “إرساء ضبابية متعمّدة” حول الهدف الأساسي، وهو مقاربة الحكومة لسلامة القطاع المصرفي.
في نظره، يمثّل القطاع المصرفي “جسر عبور” بين المدّخر والمقترِض، بينما قواعد الحركة فوق هذا الجسر ترسمها، كما يُفترض، قوانين “النقد والتسليف” و”الموجبات والعقود”، و”التجارة”، وغيرها من القوانين ذات الصلة، ويُكلَّف المجلس المركزي في مصرف لبنان بـ”الانتباه والاهتمام بحسن سير العبور على هذا الجسر”.
بناء عليه، فإنّ أيّ خطة لإعادة انتظام القطاع المصرفي تنطلق في نظر فحيلي من وعود فضفاضة بتسديد الودائع، “ولا تبدأ بإطلاق عجلة ترميم الثقة بين المودع والمقترض والمصرف”، هي “خطة ميتة تدفع باتجاه خنق القطاع”، وذلك لأنّ “المكان الطبيعي للودائع هو الحسابات المصرفية في القطاع المصرفي”، ويتوجّب على السلطة صاحبة الاختصاص تقديم خطّة يُفترض بها أن تقوم بالتالي:
1- تُعيد العمل بوسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي، مثل بطاقات الدفع والائتمان والشيكات والتحويل من أجل تخفيف الطلب على الأوراق النقدية، فتضيق مساحة المضاربة بالعملة.
2- تُشجّع المؤسّسات على العودة إلى توطين رواتب موظّفيها في الحسابات المصرفية.
3- تشجّع على “الشمول المالي”، عوضاً عن الاستبعاد المالي الذي يُمارَس في هذه الأيام، لأنّ تسديد الودائع يدفع في اتجاه تجفيف المصارف من الحسابات ومن الزبائن على السواء، ويعزّز المساحات أمام الجريمة المالية بشكل إضافي.
4- تعطي أفضليّة للحسابات المكوّنة بالليرة اللبنانية، خصوصاً لجهة تمويل فواتير الاستهلاك للأفراد والمصاريف التشغيلية للمؤسّسات.
5- تَتعامل مع الحسابات المكوّنة بالعملة الأجنبية على أنّها حسابات استثمارية ولا تسمح باستعمالها كحسابات جارية لتسديد فواتير الاستهلاك، وذلك لإعطاء الغطاء القانوني لجدولة وصول صاحب الحساب إليها وفق استحقاقها وليس “غبّ الطلب”، فيساهم ذلك في تخفيف الطلب على العملة الأجنبية.
يعتبر فحيلي أنّ “الإنقاذ والتعافي” ليسا بحاجة إلى خطة صندوق النقد، وإنّما يمكن ترتيبهما في المطبخ الداخلي بين مصرف لبنان والمصارف والسلطة السياسية
أموال المودعين في “ثلاجة” بلا كهرباء
أمّا ما يحتاج إليه القطاع المصرفي في هذا التوقيت بالذات، فهو بحسب فحيلي: “الإنقاذ والتعافي”، ومن بعدهما يمكن التفكير في إمكانية تطويره أو البحث في سبل نموّه وازدهاره.
بناء على ذلك يكون “الإنقاذ والتعافي” من خلال:
– تمكين القطاع المصرفي (ليس بالضرورة كلّ مصرف) من المحافظة على ما بقي لديه من خدمات، ودفعه باتجاه التواصل الإيجابي مع زبائنه بغية تحويل زيارتهم لفروعه من “مصدر همّ إلى مصدر اهتمام”.
– تفعيل العمل بوسائل الدفع المتاحة وتمكين المصارف القادرة على الاستمرار في خدمة الاقتصاد من تقديم هذه الخدمات.
يرى فحيلي أنّ “الإنقاذ والتعافي” هما “الممرّ الإلزامي”، لإطلاق عجلة إعادة الثقة وإعادة الحياة إلى القطاع المصرفي، وهذه الخطوات “لا تتطلّب ضخّ رأسمال جديد”، إذ يمكن تشبيه أموال المودعين في المصارف التجارية، بـ”ألبان وأجبان في ثلّاجة” قُطع عنها التيار الكهربائي.
وفق هذا التشبيه، يرى فحيلي أنّ “الإنقاذ والتعافي” اليوم هما التيار الكهربائي الذي سيحمي الودائع من التلف. ذاك التيار الذي انقطع مع إعلان تعثّر لبنان عن دفع التزاماته والتوقّف عن خدمة الدين، وهما (أي الإنقاذ والتعافي) يعنيان في أبسط التشابيه: إقناع المودعين بحفظ ودائعهم في “الثلّاجة”، أي في المصارف التجارية، وذلك لطمأنة أصحابها عليها، وتمكينهم من الوصول إلى جزء منها بغية تمويل فواتيرهم الاستهلاكية المتنوّعة، لا استردادها كاملة لوضعها في الخزائن الحديدية داخل البيوت وفي الأدراج وجيوب الملابس.
إقرأ أيضاً: مصرف لبنان “أهدر” 1.1 مليار بشهرين.. ليخفّض الدولار 1,300 ليرة
يعتبر فحيلي أنّ “الإنقاذ والتعافي” ليسا بحاجة إلى خطة صندوق النقد، وإنّما يمكن ترتيبهما في المطبخ الداخلي بين مصرف لبنان والمصارف والسلطة السياسية، وهو ما تمتنع جميع الأطراف المذكورة عن تنفيذه اليوم، ولم تأتِ على ذكره الخطة.
أمّا التطوّر والازدهار فهما بحاجة إلى “إصلاحات في المالية العامة” تكون قادرة على تسهيل إعادة هيكلة الدين العام بشقّيه المحلّي والأجنبي، وستُحسّن حظوظ لبنان في الوصول إلى برنامج مع صندوق النقد الدولي أوّلاً، وهذا بدوره يحسّن تصنيف لبنان الائتماني، وثانياً سينعكس إيجاباً على علاقة المصارف التجارية في لبنان مع المصارف المراسلة، وهو ما يدفع بدوره في اتجاه تحرير أرصدة ومبالغ كبيرة وُضعت تحت الإقامة الجبرية، بعد التعثّر غير المنظّم في آذار 2020.
لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@