هل يكفي تأكيد وزارة الخارجية الفرنسية أن ليس لباريس “أيّ مرشّح في لبنان لرئاسة الجمهورية، وعلى اللبنانيين اختيار قادتهم”. قطعاً لا. فما نفته فرنسا هو ما لا تجرؤ أيّ دولة على إعلان تبنّيه أصلاً، وهو أن يكون لديها مرشّح رئاسي في دولة أخرى. لكنّ النفي يفصح عن استشعار فرنسا لحجم الاعتراض السياسي المحلّي أوّلاً، ثمّ الدولي والإقليمي، على ترشيح فرنجية للرئاسة، ويشير إلى أنّ فرنسا اضطرّت مرغمةً على قول ما قالته، ولو كان الواقع هو خلاف ذلك على ما يعرف اللبنانيون. فسليمان فرنجية هو مرشّح فرنسا في لبنان، وهو ما لا يقلّ عن فضيحة سياسية للدور الفرنسي، تُضاف إلى سجلّ الفضائح التي أنتجتها إطلالة الرئيس إيمانويل ماكرون اللبنانية منذ انفجار مرفأ بيروت.
السعوديّة والموقف من فرنجيّة
هل يكفي قول المملكة العربية السعودية إنّها لا تتدخّل في الشأن اللبناني ليُسقط عنها هذا القول مسؤولية أن توضح بشكل قاطع معارضتها لوصول فرنجية كشخص ونهج وعنوان. قطعاً لا. فيكفي أن تكون المملكة ممثّلة في الحوارات حول لبنان ليكون ذلك مؤشّراً إلى دور ما تلعبه أو ستلعبه أو يمكن أن تلعبه في المسألة السياسية اللبنانية بكلّ ما يأتي مع هذا الدور من مسؤوليّات و”وجع رأس” لا تريده السعودية لا من قريب ولا من بعيد. وقد سمعت المملكة من كلّ حلفائها موقفاً واضحاً في العلن وفي الاجتماعات المغلقة يفيد بأنّهم لن يسيروا بفرنجية تحت أيّ طائل.
نحن إذاً أمام ثلاث إلتباسات وأنصاف مواقف. التباس فرنسي والتباس سعودي والتباس في موقف نواف سلام
هل تكفي الانطباعات عن موقف القاضي نوّاف سلام أنّه غير معنيّ بمعادلة “سلام-فرنجية”، من دون أن يعلن هو قطعاً بأنّه ليس جزءاً من هذه الهندسة الفرنسية، ليُستنتج بأن لا حظوظ لهذه المعادلة أصلاً في ظلّ رفض أحد ركنَيها لها. قطعاً لا يكفي. فعلى الصديق المحترم نوّاف سلام أكثر من غيره مسؤولية تبديد هذه الهمروجة بموقف واضح وحاسم وأن يحمي اسمه من تبعات ما يُتداول بشأنه.
لأذكّر نفسي أوّلاً بأنّني كتبت لصالح ترشيح فرنجية عام 2016، قبل ذهاب الأمور باتّجاه التسوية الرئاسية التي جاءت بميشال عون رئيساً. بيد أنّ ما صحّ يومها، إن كان صحيحاً فعلاً، فهو لا يصحّ اليوم، منذ أن أعلنت ثورة تشرين الأول 2019 نهاية عقد “الترقيع”. ترشيح فرنجية ليس أكثر من “ترقيعة” في ثوب البلاد الممزّق، وما عاد لها معنى في ظلّ حجم التمزّق الراهن غير القابل للترقيع.
ثلاثة التباسات وأنصاف مواقف
إذاً نحن أمام ثلاثة التباسات وأنصاف مواقف. التباس فرنسي والتباس سعودي والتباس في موقف نوّاف سلام.
فرنسيّاً، لا تستطيع باريس أن تغازل الثورة اللبنانية من الباب بمحاسبة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وأن تسعى من الشبّاك لفرض فرنجية رئيساً للبلاد. ولا داعي لأن “يطوشنا” الفرنسيون بأنّ المسار القضائي مسار مستقلّ، وأنّ فصل السلطات في فرنسا مسألة محسومة. فعلى صحّة هذه الحجّة إلا أنّ قرار السعي إلى العدالة في القضايا السياسية هو قرار سياسي أوّلاً، يُترك الأمر فيه للقضاء بعد القرار السياسي.
وللإيضاح فقط، من المفيد أن نتذكّر أنّ القرار السياسي الذي توفّر لمتابعة قضيّة الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم يتوفّر لقضيّة بناظير بوتو التي قضت في اغتيال مشابه لاغتيال الحريري.
سعوديّاً، تشير كلّ المعطيات المتوافرة أنّ المملكة أبلغت الفرنسيّين أنّها لن تستعمل نفوذها لتسهيل إيصال فرنجية، وأنّها لن تتعامل معه إن تمكّنت باريس من إيصاله بجهودها. لا تريد السعودية أن تكون “زعيمة العالم العربي” عبر قيادة حفنة من الدول الفاشلة أو شبه الفاشلة، عبر رئيس محسوب عليها هنا أو حكومة مقرّبة منها هناك، بل تريد أن تكون جزءاً من منظومة “مجموعة العشرين” الكبار، وهي عضوية تشترط أن تواصل المملكة مسار تنويع الاقتصاد وتسريع تطبيقات “رؤية 2030”. وعليه فإنّ المملكة جاهزة لعقد التسويات الضرورية الداعمة لهذا الطموح لا أكثر ولا أقلّ، لا الدخول في تسويات وابتزازات تصرف انتباهها عن أولويّاتها. أمّا لماذا لن تعلن المملكة موقفاً واضحاً بمعارضة فرنجية، وهي معارضة نقلها سفيرها لِمن التقاهم في لبنان، فلأنّ الرياض حريصة على عدم كسر الجرّة مع باريس، كعاصمة أوروبية مهمّة في سلّة علاقات الرياض الدولية في ظلّ تردّي علاقاتها مع واشنطن. تساير الرياض باريس عارفة أنّ ماكرون متحمّس لانتخاب فرنجية لأسباب أبعد ما تكون عن مصالح اللبنانيين وأولويّاتهم، وأبعد أكثر عن مصالح السعودية المباشرة.
ولأنّ الثقافة السياسية اللبنانية قابلة للغرق في “شبر تسوية”، جاء الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، وما تبعه من تطبيع سعودي مع نظام الأسد، ليعطي الانطباع بأنّ الرياح تنفخ فعلاً في أشرعة سليمان فرنجية، وأنّ مفاتيح بعبدا باتت قريبة من جيبه.
بين بشار وفرنجية
حقيقة الأمر أنّ من يسقطون التطبيع السعودي (والعربي عامّة) السوري على الواقع اللبناني، يتجاهلون فارقاً نوعيّاً بين وضعيّة بشّار الأسد وسليمان فرنجيّة. فالأوّل، شئنا أم أبينا، نجح في ما يتقنه آل الأسد، وهو امتحان البقاء ولو على حساب أن لا يبقى حجر على حجر، أو بشر على بشر في سوريا! نجح الأسد في أن يظلّ “عنوان أمر واقع” لا بدّ من التعاطي معه، بحدود تختلف بين دولة وأخرى، ولأسباب تتعلّق بحسابات هذه الدول أكثر من تعلّقها ببشّار نفسه.
في حين أنّ انتخاب فرنجيّة هو إنتاج لأمر واقع جديد في لبنان لا يمتلك أيّاً من عناصره الموضوعية ولا مصلحة فيه لمن هم مدعوّون إلى إنتاجه. فلا فرنجيّة هو صاحب حضور نيابي يسمح له بالتصرّف كمرشّح طبيعي، ولا يتمتّع بحاضنة مسيحية في أيّ من المعسكرين المسيحيَّين، الأكبر أي القوات اللبنانية ثمّ الحالة العونية. فرنجية هو مرشّح حزب الله قولاً واحداً، ومرشّح منظومة المافيا والميليشيا بكامل أركانها، التي قبل أن تتمكّن أفصحت عن نوايا إعادة عقارب الفساد والتسلّط إلى الوراء كما ظهر في التصرّف البلطجي مع تلزيمة المطار. ولا السعودية دولة “يؤكل رأسها” بكلام من النوع الذي قاله فرنجية من بكركي عن العروبة والطائف وبقيّة العُدّة التي يتلوّن بها منتحلو صفات الوسطية الاضطرارية. لا أحد كأهل نجد يعرف أنّ المسلمين قبل الفتح هم غير المسلمين بعده.
ثمّ إنّ أمام التسوية السعودية الإيرانية الكثير من الوقت قبل أن تتأكّد الرياض من خلوّ الجحر الإيراني من أفاعٍ تتوثّب للّدغ، بحيث إنّ الامتحان اليمني سيطول قبل أن تصل مفاعيل التسوية، إن وصلت، إلى لبنان.
إقرأ أيضاً: لماذا يتحفّظ بعضُ العرب على فرنجيّة؟
أصاب وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، حين قال إنّه لا مشكل سعوديّاً في لبنان بل مشكل لبناني.
ما يحتاج إليه لبنان اليوم هو إدراك لبنانيّ أوّلاً أنّ عمق الأزمة في البلاد يتطلّب تفكيراً خارج منطق الترقيع والصناديق القديمة، لا التوهّم بإمكانية تسريع العودة إلى الوراء عبر قراءات قاصرة للتطوّرات الإقليمية، واستدعاء تدخّلات وأدوار يأنف منها المدعوّون إليها ويعبّرون عن ذلك مواربة أو مباشرة.
إذا كان سليمان فرنجيّة هو مرشّح التسوية فمن يكون يا ترى مرشّح الهزيمة؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@