كانت مدينة سان بطرسبرغ في شمال روسيا تستقبل قادة من الدول الإفريقية تلبيةً لدعوة من الرئيس فلاديمير بوتين، عندما وقع انقلاب عسكري جديد في النيجر، إحدى دول القارّة السمراء، مضيفاً دولة جديدة إلى لائحة الدول المتمرّدة على فرنسا.
ما كان لهذه الانقلابات التي قلّصت النفوذ الغربي في القارّة السمراء لتقع لولا التدخّل الروسي عبر مجموعة فاغنر.
تحصي الأمم المتحدة نفوذ فاغنر العسكري والسياسي والاقتصادي، وتقول إنّ لفاغنر نفوذاً عسكرياً مباشراً في خمس دول إفريقية هي: إفريقيا الوسطى، السودان، ليبيا، مالي، موزامبيق، إضافة إلى النيجر، وإنّ نفوذها الاقتصادي ينتشر في خمس دول أخرى هي: كينيا، بوركينا فاسو، الكاميرون، وخاصة في السودان، وإفريقيا الوسطى.
أمّا النفوذ السياسي فيمتدّ ليشمل، إضافة إلى كلّ هذه الدول، الكونغو وغينيا الاستوائية وزيمبابوي وجنوب إفريقيا، أي تتمتّع فاغنر الروسية بنفوذ سياسي وعسكري واقتصادي في خمس عشرة دولة إفريقيّة.
ذهب السودان… وصمود بوتين
في 27 حزيران الماضي فرضت الولايات المتحدة عقوبات على مصالح فاغنر الاقتصادية في إفريقيا، وخاصة على منجم الذهب في بوركينا فاسو، الذي تُقدّر قيمة مخزونه وحده بحوالي مليار دولار. ويصدَّر هذا الذهب عبر السودان إلى الأسواق العالمية، الأمر الذي يلقي الضوء على أحد أبعاد الأزمة العسكرية المدمّرة التي تجتاح السودان.
يشكّل الذهب الإفريقي أحد أهمّ مصادر دعم الاقتصاد الروسي والعملة الروسية في مواجهة العقوبات الأميركية – الأوروبية الشديدة المفروضة على موسكو منذ أن بدأت الحرب على أوكرانيا قبل أكثر من عام. والواقع أنّ هذه العقوبات بدأت في عام 2014 عندما احتلّت روسيا شبه جزيرة القرم وضمّتها إليها. لكنّ هذه العقوبات بدت عديمة الأثر أو محدودة الأثر بسبب التفاف روسيا عليها عبر المناجم والأسواق الإفريقية التي وفّرتها لها مجموعة فاغنر. واستناداً إلى دراسات الأمم المتحدة اضطرّ خُمس سكان إفريقيا الوسطى إلى الهجرة بسبب الصراع على استخراج الذهب خلال العام الماضي وحده. وهو ما يتعرّض له السودان أيضاً الذي يواجه أسوأ مأساة إنسانية في تاريخه الحديث.
من هنا خطورة الخلاف بين الرئيس بوتين وزعيم فاغنر. وهو خلاف تعلِّق الولايات المتحدة آمالاً كبيرة على تكريسه وتعميقه وتوسعته.
لقد أثبتت هذه القمّة أنّ القارّة السمراء تحوّلت إلى مسرح للصراع الروسيّ – الأميركي، وأنّ فاغنر كانت ولم تزل الأداة الروسيّة في هذا الصراع
إنّ تعجيز الرئيس بوتين عن حسم الحرب في أوكرانيا واستنزافه عسكرياً واقتصادياً، وتفجير الصراع بينه وبين زعيم فاغنر يفغيني بريغوجين الذي حاول اقتحام موسكو قبل أن يستجيب لدعوة الرئيس البيلاروسي إلى اللجوء إليه لتسوية العلاقات مع الرئيس بوتين، يشكّلان ركنَي الاستراتيجية الأميركية التي تستهدف حمل الكرملين على التراجع. لكنّ الرئيس بوتين يخوض الحرب في أوكرانيا على أساس أنّها حرب مصيرية بالنسبة له. فهو لم يقطع الصلة بزعيم فاغنر ولم يدِر ظهره للدول الإفريقية الخمس عشرة التي تعتمد على الدعم العسكري الذي تقدّمه لها فاغنر باسم روسيا ونيابة عنها، كما أكّدت ذلك قمّة سان بطرسبرغ الروسيّة – الإفريقيّة. فقد قدّم الرئيس بوتين لهذه الدول، إضافة إلى هبة الحبوب، إعفاءً كاملاً من الديون المترتّبة عليها.
فاغنر ترِث نفوذ فرنسا
لقد أثبتت هذه القمّة أنّ القارّة السمراء تحوّلت إلى مسرح للصراع الروسيّ – الأميركي، وأنّ فاغنر كانت ولم تزل الأداة الروسيّة في هذا الصراع. فهي تشجّع وتساعد الانقلابيّين الأفارقة وتحمي سلطتهم، ثمّ إنّها هي التي تستثمر مناجم الذهب لديهم كما كان يحدث في بوركينا فاسو. حتى إنّ مالي مثلاً طلبت من قوات الأمم المتحدة (13 ألف جندي) مغادرة البلاد!!.. وهو ما حدث أيضاً الأسبوع الماضي في النيجر. أمّا الخاسر الأوّل في هذا الصراع فهو فرنسا التي تآكل نفوذها في القارّة السمراء حتى أصبح التحالف معها “تجارة سياسية خاسرة”.
لا يقتصر نفوذ قوّات فاغنر على الدول الإفريقية وحدها. فلهذه القوّات وجود فاعل جدّاً في دول عربية مثل سوريا، لكنّ أعدادها غير معروفة هناك، لأنّها تعمل تحت غطاء روسي رسمي ومباشر. وهي موجودة أيضاً الآن في السودان وتشترك في حرب “الشقيقين” أو “الشقيَّين”، وهي الحرب التي هجّرت الملايين، وأودت بحياة عشرات الآلاف ودمّرت العاصمة الخرطوم ومدناً سودانية عديدة أخرى.
إقرأ أيضاً: هل تندلع الحرب في إفريقيا؟
تقف الصين متفرّجة عن بُعد على الصراع الروسي – الأميركي في إفريقيا. فهي تتجنّب من جهة أولى أداء دور كاسحة ألغام لهذا الصراع المحتدم. لكنّها تحرص من جهة ثانية على طرح نفسها بديلاً عن الاثنين على الرغم من أنّ طريق الحرير لم تكتمل بعد.