على الرغم من الانهيار النقدي والاقتصادي، وتفاقم أزمة النازحين السوريين التي باتت تهدّد تركيبة لبنان الدقيقة، والفراغ الرئاسي، ما يزال اهتمام المجتمع الدولي بلبنان لا يتناسب مع حجم المعاناة والخطر الذي يهدّد الاستقرار الأمنيّ، ومن المرجّح أن يتزايد هذا الإحجام عن مدّ يد العون للبنان مع استمرار الانقسامات المحلّية وتعاظم النفوذ الإيراني.
انفجار مرفأ بيروت الرهيب قبل 3 سنوات استدرّ عطفاً وتضامناً مرحليَّيْن سرعان ما تلاشيا بعدما اصطدما بالمماحكات السياسية والتوظيف الطائفي وعدم قدرة الأفرقاء اللبنانيين على مقاربة المشكلات برؤية مشتركة تترجم هذا العطف إلى دعم مستدام. وأكثر من عبّر عن اهتمام المجتمع الدولي بلبنان في تلك اللحظة هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي زار بيروت مرّتين. إلا أنّ الاهتمام الفرنسي تراجع بعد فشل الرئيس ماكرون في تحويل التعاطف الدولي إلى لحظة وطنية جامعة، وذلك نتيجة رفض الأفرقاء اللبنانيين لأسباب مختلفة المبادرات الفرنسية.
انفجار مرفأ بيروت الرهيب قبل 3 سنوات استدرّ عطفاً وتضامناً مرحليَّيْن سرعان ما تلاشيا بعدما اصطدما بالمماحكات السياسية والتوظيف الطائفي وعدم قدرة الأفرقاء اللبنانيين على مقاربة المشكلات برؤية مشتركة تترجم هذا العطف إلى دعم مستدام
من هم “منافسو” لبنان؟
يتنافس لبنان لجذب الاهتمام والمساعدات الدولية مع أزمات كبرى في المنطقة معظمها بدأ يأخذ الطابع الإنساني الملحّ. أزمة النازحين السوريين في داخل سوريا ودول الجوار، حرب اليمن وتداعياتها الإنسانية، أوضاع الفلسطينيين تحت الحصار والاحتلال، إضافة إلى الوضع السودانيّ المستجدّ الذي ينبئ بكارثة إنسانية إذا ما استمرّ الاقتتال الداخلي… كلّها قضايا تتطلّب معالجات فوريّة فيما المشكلات اللبنانية معظمها نتيجة دلع سياسي وصراع نفوذ ومصالح ضيّقة أدّت إلى فشل المعالجات والمبادرات المتعدّدة.
لطالما كان لبنان ساحة لصراعات إقليمية وتصفية حسابات بين الأنظمة العربية كانت تتّخذ أشكالاً متعدّدة. لكن مع انغماس الدول المعنيّة في تحدّياتها الداخلية ونزاعات أخرى أقرب إليها تراجع الاهتمام بلبنان، وبالتالي الدعم، وتحوّل إلى متابعة ووعود مشروطة بإصلاحات.
الدول المؤثّرة مباشرة في لبنان وتلك التي تمتلك قدرة رفض وتعطيل هي الولايات المتحدة، المملكة العربية السعودية وإيران. أمّا الدول المتابعة والمهتمّة التي يمكن أن تلعب أدواراً فهي فرنسا، مصر، وقطر، وكان منطقياً أن تتشكّل اللجنة الخماسية لمتابعة الوضع في لبنان من هذه الدول.
تضارب المصالح والمقاربات
أمّا الدور السوري التاريخي في إدارة لبنان سياسياً، فانتقل جزء منه إلى إيران، بانتظار أن تنجلي طبيعة وشكل النظام في سوريا. والدول المؤثّرة في لبنان لها مصالحها ومقارباتها المختلفة:
– بالنسبة للولايات المتّحدة فإنّ لبنان لم يسقط من دائرة الاهتمام والمتابعة. لكن دائماً تتمّ مقاربة العلاقات مع لبنان من خلال سياقها الإقليمي: محاربة الإرهاب وأمن إسرائيل واحتواء إيران هي من أهمّ عناوين السياسة الأميركية في المنطقة، وهذا ينسحب على سياسة واشنطن تجاه لبنان. ومن هنا ثبات سياسة استمرار دعم الجيش اللبناني تزامناً مع التشدّد في تطبيق العقوبات من أجل احتواء تعاظم نفوذ إيران في لبنان والمنطقة.
في خطاب لجايك ساليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس جو بايدن، أمام “معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى” أخيراً، شرح سياسة الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط، واختصر الإشارة إلى لبنان بـ”الإنجاز التاريخي” في وصفه لاتفاق الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل.
ربّما اندلاع حرب باردة وتجارية بين الغرب والصين وروسيا قد يعيد للبنان دوراً كان الوحيد المؤهّل للعبه في المنطقة
– المملكة العربية السعودية التي شهدت وتشهد تحوّلات كبيرة داخلياً وعلى صعيد مقاربة المسائل الدولية وكيفية إدارتها للعلاقات الخارجية، أصبحت أقرب إلى المقاربة الأميركية للوضع في لبنان، وأصبح جليّاً أنّ الرياض تتعاطى مع لبنان من وجهة نظر مصالحها و”رؤيتها”، وتريد مأسسة هذه العلاقات من دولة إلى دولة.
– إيران الإسلاميّة ترى في لبنان قصّة نجاح لتصدير الثورة وغير مستعدّة أن تتنازل عن أيٍّ من مكتسباتها. لكنّها مستعدّة للحوار مع الآخرين، وذلك في سبيل تعزيز هذه المكتسبات والحفاظ عليها.
في المقابل، على مستوى المواجهة الإقليمية في المنطقة مع إيران التي تسعى إلى تعزيز وتوسيع نفوذها في المنطقة، فمن المنطقي أن تُحجم الدول التي تقف في وجه طهران عن مساعدة لبنان، لأنّ هذه الدول أصبحت على قناعة بأنّ إيران، من خلال الحزب، هي الطرف الأكثر نفوذاً في لبنان، وأيّ مساعدة للبنان سيستفيد منها الحزب، وبالتالي مشروع التمدّد الإيراني.
في ظلّ التباين في المصالح والمقاربات فإنّ فرص التسوية في لبنان تمهيداً لتقديم الدعم لمساعدة لبنان على النهوض، ما تزال بعيدة.
أمام هذا المشهد الإقليمي والدولي المعقّد، يأتي التشرذم اللبناني ليفاقم الأمور ويزيد من إحجام المجتمع الدولي عن مدّ يد العون إلى لبنان.
إقرأ أيضاً: انتهى عصر “دفتر الشيكات النفطيّ” المسيّس!
من الطبيعي أن يتساءل اللبنانيون: هل فقد لبنان دوره الجيو-استراتيجي؟ عاش لبنان عزّهُ في الخمسينيات والستّينيات حين كانت الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والغربي في أوجها وكان للبنان دور مهمّ نتيجة موقعه الجغرافي، قطاعه المصرفي، صروحه الجامعية وقدراته البشرية… وهي من ضرورات المواجهة الاستخباراتية.
ربّما اندلاع حرب باردة وتجارية بين الغرب والصين وروسيا قد يعيد للبنان دوراً كان الوحيد المؤهّل للعبه في المنطقة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mouafac@