مصادقة الكنيست على قانون عدم المعقولية قبل أيام ما هي إلّا أولى خطوات حكومة اليمين نحو تشريع خطّة الإصلاح القضائي التي ستغيّر نظام الحكم في الكيان.
مع تمرير كلّ قانون في الكنيست، يكون متوقّعاً أن يزداد الانقسام الأفقي والعموديّ في إسرائيل، وترتفع معه وتيرة الاحتجاجات الشعبية والصدام بين أنصار الفريقين، على الرغم من تداعيات ذلك على مؤسّسات الدولة، ومنها “بقرة إسرائيل” المقدّسة: الجيش والمؤسّسة الأمنيّة.
يشعل رفض الخدمة في الجيش، المصحوب بشعور عامّ لدى الإسرائيليين بتآكل قوّة ردعه، قلقاً من عدم كفاية استعدادات الجيش للتحدّيات الأمنيّة مع لبنان وقطاع غزّة أو إيران، نظراً إلى عدم معرفة الضرر الذي قد يكون لحق بوحدات الجيش، وهو ما يسعى قادة المؤسّسة الأمنيّة إلى معرفته.
يعتبر قادة الاحتلال ما يحصل في الجيش من “رفض الخدمة”، بمنزلة زلزال عسكري ذي تداعيات خطيرة. وفي منظورهم يسمح ذلك لأعداء إسرائيل في المنطقة باستغلاله لمهاجمتها وإلحاق الضرر بها، خاصة أنّ الجيش يُعدّ أهمّ بقرات إسرائيل المقدّسة، ويوصف بـ”جيش الشعب” الذي عمل طوال 75 عاماً على حماية الكيان.
يقرّ قادة الاحتلال الأمنيون، كوزير الحرب يوآف غالانت ورئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي، بوجود تراجع في المناعة القومية بسبب الاحتجاجات الشعبية وما رافقها من رفض الخدمة. وقد حذّر هاليفي رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو من أنّ ذلك يؤثّر على تماسك الجيش ووحدته ويتسبّب بانخفاض قدرته على استيعاب مجنّدين جدد، وقد يؤدّي إلى تضرّر القدرة على مواجهة التحدّيات. سواء تلك التي يمثّلها الحزب الذي تقول التقديرات الأمنيّة إنّ مواجهته باتت اليوم أقرب من أيّ وقت مضى منذ 2006، أو إيران وبرنامجها النووي الذي بات أقرب من أيّ لحظة إلى التتويج بقنبلة نووية حسب التقديرات الإسرائيلية.
مصادقة الكنيست على قانون عدم المعقولية قبل أيام ما هي إلّا أولى خطوات حكومة اليمين نحو تشريع خطّة الإصلاح القضائي التي ستغيّر نظام الحكم في الكيان
الجيش يتوقع حرباً أهلية؟
يعمل الجيش الإسرائيلي منذ تأسيسه عام 1948 على فلسفة واضحة تقوم على خوض المعارك خارج حدود “الدولة”. وهذا كان يتطلّب من الجيش استعداديّة عالية عسكرياً واستخبارياً. لذلك يُنظر إلى أنّ رفض مئات الضباط للخدمة، وخاصة من سلاح الطيران، يد إسرائيل القويّة، يمثّل خطراً على تلك القدرة، ومسّا بهاً وإضعافاً لها.
سيكون لجيش الاحتلال الإسرائيلي بما يمثّله من ضباط وجنرالات دور مهمّ في تحديد تداعيات التعديلات القضائية، نظراً للمكانة المرموقة التي يتمتّع بها لدى الإسرائيليين، خاصة أنّ معظم أولئك الضبّاط ينخرطون بعد تقاعدهم في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد، لكنّ ذلك قد لا يكون ذا قيمة لدى أحزاب اليمين الإسرائيلي المشارِكة في الحكومة وأنصارها من المستوطنين، الذين يرون في تدخّل الجيش وجنرالاته في الشأن السياسي العامّ وعمل الحكومة ورفض الخدمة والمشاركة في العصيان المدني… انقلاباً وخروجاً عن القانون. وهو ما يعزّز ما ذهب إليه البعض من سيناريوهات رجّحت ذهاب إسرائيل إلى حرب أهليّة في المرحلة المقبلة، ومنهم رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، أو حدوث انقلاب عسكري في لحظة ما.
يرى اليمين الصهيوني أنّ وجوده في الحكومة فرصة مهمّة لتمتين مكانته السياسية وتعزيز فرصه مستقبلاً، ودعم مخطّطاته وأولويّاته التي تتمثّل في تنفيذ خطة الإصلاح القضائي كخطوة أولى تضمن تعزيز شعبيّته في صفوف المستوطنين في الاستحقاقات المقبلة. لكنّ ذلك يبدو غير كافٍ، إذ تخطّط أحزاب اليمين لاستكمال ذلك بمرحلة ثانية من خلال التغلغل في رئاسة الهيئات المحلّية التي تجري انتخاباتها في تشرين الأوّل المقبل، إضافة إلى تعزيز المشروع الاستيطاني في الضفّة الغربية والقدس المحتلّة، وتغيير الأوضاع فيهما وفي المسجد الأقصى.
بن غفير يرسم مستقبل إسرائيل
بات جليّاً رضوخ حكومة نتانياهو لبرنامج وتوجّهات أحزاب اليمين المتطرّف، ولذلك ليس غريباً اعتقاد غالبية الإسرائيليين أنّ من يقود الحكومة هو المتطرّف إيتمار بن غفير ورئيس الكنيست الليكودي اليميني ياريف ليفين، الذي يطمح إلى قيادة الليكود في الفترة المقبلة، وينسجم مع توجّهات بن غفير بتسلئيل سموتريتش، الذي هدّد نتنياهو بإسقاط الحكومة في حال تراجعه عن التصويت على خطّة الإصلاح القضائي.
يهدف قادة اليمين في الحكومة أمثال بن غفير وسموتريتش، وليس بعيداً عنهما ليفين، إلى حسم الصراع مع الفلسطينيين، سواء عبر تكثيف الاستيطان في الضفّة، أو تنوّع الخطط والمشاريع الهادفة إلى ذلك. وفي هذا الإطار تبرز رؤية وزير المالية سموتريتش القائمة على 3 أركان أساسية هي طرد الفلسطينيين إلى الخارج وتشجيعهم على ذلك، أو القبول بالعيش في دولة يهودية بدرجة أقلّ، أو القتل، من دون إغفال تهويد القدس وتغيير معالمها لتكون عاصمة لإسرائيل، وصولاً إلى إقامة الهيكل فوق أنقاض المسجد الأقصى.
في إطار مخطّطات اليمين بشأن المسجد الأقصى، كشفت القناة 12 العبرية قبل أيام تمويل حكومة الاحتلال لمشروع “البقرة الحمراء” الذي يهدف إلى إزالة المانع الديني الذي يحول دون مشاركة عدد كبير من المستوطنين في اقتحام الأقصى، في غضون أقلّ من نصف عام، الأمر الذي يُمهّد لاحقاً لهدم المسجد وتشييد الهيكل المزعوم.
يستثمر “معهد بناء الهيكل”، الذي يشرف على مشروع “البقرة الحمراء”، الجهود والأموال الكثيرة للعثور على “البقرة الحمراء” التي من خلالها سيتمّ تنفيذ بعض الطقوس لبناء وإقامة “الهيكل” المزعوم، بالتعاون مع منظمة “بناء إسرائيل”، وبمشاركة مسؤولين في الحكومة وبعض أحزاب الائتلاف الحكومي.
نجحت إسرائيل أخيراً في جلب 5 أبقار حمر من أميركا عبر طائرة خاصة، تبلغ من العمر سنة وسبعة شهور، وستتمّ مراقبتها لمدّة 5 شهور تمهيداً لحرقها على جبل الزيتون المقابل للمسجد الأقصى مع بلوغها العامين في حال لم يظهر فيها أيّة عيوب، إيذاناً ببدء طقوس إقامة “الهيكل الثالث” المزعوم.
إقرأ أيضاً: إسرائيل: حسم الصراع الفلسطينيّ وتجسيد دولة المستوطنين
تُعدّ البقرة الحمراء لدى المستوطنين المتطرّفين المفتاح الذي يعتقدون أنّه إشارة السماء لإقامة هيكلهم فوق أنقاض قبّة الصخرة والحرم القدسيّ. وقد تحوّلت تلك البقرة مع مرور السنوات إلى أزمة في ظلّ فشل محاولات العثور عليها في 2018 وقبلها 2015، بعدما ظهرت فيها عيوب قبل بلوغها العامين.
إزاء جموح أحزاب اليمين المتطرّف في الحكومة التي تسعى إلى استغلال نتانياهو، وانتقادات المعارضة، وما يعصف بالجيش والمؤسّسة الأمنيّة، يلعب نتانياهو على خيوط النار من خلال تصريحاته الإعلامية المتوالية التي يؤكّد فيها أنّ إسرائيل لن تذهب إلى حرب أهلية، وأنّه لن تقوم فيها حكومة شريعة يهودية، وأنّ الجيش سيبقى قويّاً، لكنّها تصريحات ليس بالضرورة أن تجد لها آذاناً صاغية نظراً لما يجري على الأرض.