الجزائر تدقّ باب الشرق… ليفتح الغرب

مدة القراءة 6 د


أعادت أزمة الطاقة العالمية إلى السياسة الخارجية الجزائرية حيويتها. يأتي الأمر معطوفاً على تطوّر طرأ على قراءة الجزائر نفسها للعالم، وتنامى وعي ذاتيّ للمكانة التي يمكن أن تلعبها البلاد داخل المشهد الدولي العامّ. وسواء في الحيوية الجديدة للدبلوماسية الجزائرية أم بالتحرّك الذي يقوده الرئيس عبد المجيد تبون صوب الخارج، فإنّه يجب رصد مفاتيح الدبلوماسية الجزائرية وقوانينها المستجدّة.

على الرغم ممّا توحي به علاقات الجزائر بروسيا من انحياز جزائري محتمل لصالح موسكو، فإنّ الأمر قد لا يذهب هذا المذهب، على الأقلّ إلى هذا الحدّ، إذا ما تمّ قياس التطوّر في حسابات استراتيجية وجيوستراتيجيّة. لم يثبت أنّ الجزائر تتقدّم بعلاقات صوب موسكو تنال من علاقاتها مع المنظومة الغربية، ولا مصلحة للجزائر كما لأيّ بلد في العالم إعلان أيّ انحياز قبل انجلاء الضباب عن نظام دولي جديد مزعوم، إضافة إلى أنّ زيارات تبون لإيطاليا والبرتغال (من الحلف الأطلسي) في أيار الماضي جاءت سابقة على زياراته لروسيا والصين في حزيران وتمّوز.

أعادت أزمة الطاقة العالمية إلى السياسة الخارجية الجزائرية حيويتها. يأتي الأمر معطوفاً على تطوّر طرأ على قراءة الجزائر نفسها للعالم، وتنامى وعي ذاتيّ للمكانة التي يمكن أن تلعبها البلاد داخل المشهد الدولي العامّ

لئن تشير زيارة تبون للصين بعد أسابيع على زيارته لروسيا إلى اقتراب من “تحالف الشرق” وامتداداته داخل منظّمتَيْ بريكس وشنغهاي وغيرهما، غير أنّ الجزائر لم تُدلِ بمواقف في هذا الصدد تختلف عن مواقف دول المنطقة في العلاقة مع موسكو وبكين. والأرجح أنّ الجزائر تلتحق بركب بلدان كثيرة في العالم العربي عملت وتعمل على تعزيز “الخيار الشرقي” من دون الابتعاد عمّا هو تقليدي في علاقاتها بالعالم الغربي عامّة، وبأوروبا خاصّة.

أوروبا تحتاج غاز الجزائر

تمتلك الجزائر احتياطات من الغاز جعلتها مقصداً أساسياً للمستهلكين الأوروبيين بعد قرار هجر الغاز الوارد من روسيا والبحث عن أسرع وأقرب البدائل المتاحة. ويغرف التحرّك الجزائري الجديد صوب العالم من هذا الواقع وهذه الحقيقة. ووقّعت الجزائر عقداً استراتيجياً مع إيطاليا لم تحظَ به دولة مثل فرنسا. وتبدو الجزائر في تماسّها الروسيّ تخاطب مُنتِجاً أساسياً في سوق إنتاج الطاقة، والغاز أساساً، وتعرف أنّها غرفت مليّاً من غياب حصّته في سوق أوروبا. وباتت الجزائر في الوقت عينه في تماسّها مع الصين تدرك أنّها تتعامل مع واحد من أكبر مستهلكي الطاقة في العالم وأحد الزبائن الكبار.

تطرق الجزائر أبواب الشرق لتفتح لها أبواب الغرب. نبّهت خطوات الجزائر الأخيرة صوب “الشرقية” الولايات المتحدة إلى تحوّلات محتملة في موقع الجزائر الجيوستراتيجي في منطقة غرب المتوسّط والمنطقة الساحلية الصحراوية وشمال إفريقيا كما في فضاءات الدول المصدّرة للطاقة في العالم. لم يفُت واشنطن أنّ مناورة دولة عربية إفريقية طاقوية باتجاه موسكو وبكين تمسّ بتوازن دولي في وقت تخوض الولايات المتحدة صراعاً آنيّاً ضدّ روسيا وبارداً طويل الأمد ضدّ الصين. وإذا ما أرادت الجزائر من خلال “حجّها” الروسي الصيني بعث رسائل لمن يهمّه الأمر، فمن الواضح أنّ واشنطن تسلّمت الرسائل باهتمام وقلق.

الجزائر والمغرب… والرشاقة الدولية

لا يغيب الخلاف الجزائري مع المغرب عن بال صانع السياسات في الجزائر. قدّم المغرب خلال السنوات الأخيرة عرضاً مثالياً للتمارين الدبلوماسية في العالم. دارت السياسة الخارجية المغربية على ثابت التمسّك بمغربيّة الصحراء وقراءة العلاقة مع العواصم وفق مواقفها من هذا الملفّ. ومن الواضح أنّ الرباط حقّقت إنجازات في ما استجدّ في مواقف دول مثل الولايات المتحدة وألمانيا وإسبانيا وإسرائيل وغيرها. وفيما استنتجت الجزائر هذا التطوّر، فإنّ “دبلوماسية الغاز” منحت البلد رشاقة في انخراط متكافئ في العلاقات الدولية.

يأتي مشهد الدبلوماسية الجزائرية غير منفصل عن دينامية دبلوماسية في العالم العربي، سواء في علاقات المنطقة مع الغرب والشرق أو في تطوّر العلاقات مع تركيا وإيران

مع ذلك فإنّ مواقف الجزائر والمغرب من الصين وروسيا تبقى تحت سقف مقبول ومعتدل يفتح خيارات الرباط والجزائر في الوصل مع عواصم الدنيا وعدم التورّط في معسكراتها. ولا يبدو في هذا الصدد أنّ “مسألة الصحراء” ستتأثّر بـ”لعبة الأمم” الحالية. ذلك أن لا أعراض لاختلال دوليّ كبير في موازين القوى المرتبطة بمآلات حلّ أمميّ نهائيّ بشأن “الصحراء” أو للتأثير على طبيعة ومستقبل العلاقات الجزائرية المغربية.

على الرغم ممّا يشوب علاقات الجزائر مع روسيا والصين من ترسّبات أيديولوجيّة متحدّرة من سنوات الاستقلال الأولى بقيادة جبهة التحرير الوطني، إلا أنّ أمر العقائد السياسية لم يعد عاملاً أساسياً، أو على الأقلّ وحيداً، في رسم علاقات الجزائر مع البلدين. فحتى علاقات موسكو وبكين التي توصف من قبل العاصمتين بأنّها “شراكة بلا حدود”، تقوم على حسابات مصالح دقيقة تظهر في خطاب الصين أكثر من خطاب روسيا.

يقوم موقف الجزائر من “قضية الصحراء” على قاعدة أيديولوجيّة (تشبه موقف إفريقيا الجنوبية مثلاً) تدافع عن “حقّ الشعوب في تقرير مصيرها”. غير أنّ ما هو عقائدي ليس إلا وسيلة وليس غاية لتحقيق المصالح الحقيقة للجزائر. ينسحب ذلك على العلاقة الجديدة والصعبة مع فرنسا التي ساهمت أزمة الطاقة في جعلها تميل صوب الجزائر. وعلى الرغم من الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للجزائر في آب 2022 لرأب كثير من الصدوع التاريخية والراهنة، وعلى الرغم من قيام رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيت بورن لاحقاً بزيارة أخرى في تشرين الأول الماضي على رأس أكثر من نصف وزراء حكومتها، غير أن تعثّر زيارة تبون لباريس مراراً يعكس صعوبة ترميم علاقات معقّدة بين البلدين.

إقرأ أيضاً: تركيا: العنقاء التي ينتظرها زعيم المعارضة كيليشدار أوغلو!

يأتي مشهد الدبلوماسية الجزائرية غير منفصل عن دينامية دبلوماسية في العالم العربي، سواء في علاقات المنطقة مع الغرب والشرق أو في تطوّر العلاقات مع تركيا (التي زارها تبون أخيراً) وإيران. وإذا ما حقّقت بلدان المنطقة المنتجة للنفط قفزة تنموية كبرى إثر صدمة السبعينيات النفطية، فإنّ البلدان الخليجية تشهد هذه الأيام صدمة دبلوماسية “تاريخية” لا تتعلّق فقط بأزمة الطاقة بسبب حرب أوكرانيا، بل بتوق هذه البلدان إلى صناعة اقتصاد ما بعد النفط على نحو يفرض تغييراً في خرائط العلاقات مع العالم. وقد لا تكون الجزائر في دبلوماسيّتها الجديدة بعيدة عن هذا الطموح وإن لم تظهر حتى الآن أيّ خطط أو دلالات له.

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…