انقلاب النيجر: روسيا “جنديّ في الجيش الصينيّ”

مدة القراءة 9 د


*يُنشر بالتزامن مع موقع ومجلّة طاقة الشرق

هل يشكّل انقلاب النيجر مؤشّراً إلى فصل جديد لتوسّع الصين في إفريقيا؟ وهل يشكّل حلّ الأزمة نموذجاً لتقاطع مصالحها مع أميركا، ولتقاسم النفوذ معها على حساب فرنسا وروسيا؟

هل يمكن القول بناء على ذلك إنّ قوات فاغنر ومن ورائها روسيا باتت عمليّاً في خدمة المشروع الصينيّ التوسّعي، خاصة أنّ السيطرة على النيجر هي بمنزلة “فيل” سياسي لا قدرة لروسيا على هضمه؟

لنبدأ بالسؤال الثاني الذي تحمل الإجابة عليه معطيات الإجابة على السؤال الأول.

ما يبرّر السؤال هو أنّ روسيا ليست في موقع سياسي وعسكري واقتصادي يؤهّلها لشنّ هجوم كبير بحجم إخراج الفرنسيين والأميركيين والغربيين عموماً من آخر معاقلهم في دول الساحل الإفريقي، خاصة أنّها غير موجودة عملياً في النيجر، في حين أنّ الصين هي التي تملك فيها وجوداً تجارياً واستثمارياً وعسكرياً، إلا إذا شئنا التصديق أنّ فاغنر وروسيا أصبحتا على حين غرّة “حلف وارسو” أو الجيش الأحمر، وبات بإمكانهما تغيير معادلات الجغرافيا السياسية. 

قيام روسيا بقطع أو تقليص إمدادات الغاز إلى أوروبا، جعلها في وضع المصدر غير الموثوق، وشكّل مصدر قلق وخطر محدق بالنسبة لأميركا وأوروبا والصين أيضاً

في المقابل، تُعتبر النيجر مستعمرة فرنسية بكلّ معنى الكلمة. وذلك على الرغم من وجود قوات أميركية لمحاربة التنظيمات المتشدّدة، وعلى الرغم من وجود صيني اقتصادي واستثماري ما يزال متعثّراً ومعطّلاً بقرار فرنسي. لكن لا بدّ من الإشارة إلى تصاعد نقمة شعب النيجر على فرنسا في السنوات الأخيرة، والسبب هو تشديد قبضتها بعد خسارتها موقعها التاريخي في مالي وبوركينا فاسو، وإمعانها في استغلال موارد البلاد، وخاصة اليورانيوم، بدون تنفيذ أيّ مشروع إنمائي، ولو محطة لتوليد الكهرباء التي يتمّ استجرارها من نيجيريا. وترافق ذلك مع اشتداد الصراع السياسي على إفريقيا ومواردها بين الدول الغربية وبين الصين من جهة، وبين أميركا وبين الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا، من جهة أخرى. 

تطرح هذه المعطيات تساؤلاً مهمّاً: من له مصلحة في تغيير نظام الحكم والأوضاع القائمة في النيجر.

الموقف الأميركيّ الملتبس

الالتباس هو أقلّ ما يوصف به الموقف الأميركي من الانقلاب. فالإدارة الأميركية لم تصنّف ما حدث بأنّه “انقلاب عسكري”، إلا بعد تصاعد ضغوط الكونغرس، وعدم اقتناعه بتبريراتها بأنّ التصنيف يترتّب عليه بموجب القانون الأميركي قطع العلاقات ووقف المساعدات إلخ…

في المقابل اتّسم الموقف الفرنسي بعنف غير مسبوق. وقد لخّصه الرئيس إيمانويل ماكرون بالقول إنّ “باريس ستردّ من دون هوادة على أيّ تعرّض لمصالحها في النيجر”، مشدّداً على أنّ “التدخّل العسكري سيكون أكثر عنفاً ممّا كان مع البلدان الإفريقية الأخرى”.

يسمح ذلك بالقول إنّ إدارة بايدن ما تزال في وارد التعامل مع الأمر الواقع، أو التريّث في إدارة الأزمة، لاستطلاع إمكانية ترتيب صفقة ما تحفظ مصالح الأطراف المعنيّة، أي أميركا والصين وفرنسا، على قاعدة القوّة الفعلية لكلّ منها. وربّما تعطى روسيا حصّة تعادل عدد الأعلام الروسية التي رُفعت في التظاهرات المؤيّدة للانقلاب.

الصين هي اللاعب الرئيسيّ

جاء الردّ الصيني على الانقلاب من “قماشة” الردّ الأميركي. إذ دعت وزارة الخارجية الصينية “الأطراف المعنية إلى العمل لمصلحة البلاد وشعبها وحلّ الخلافات سلمياً بالحوار”. وهو ما يوحي بوجود تقاطع مستتر للمصالح بين أميركا والصين يقضي بإيجاد تسوية ما تحفظ الاستقرار في النيجر.

لتوضيح الصورة، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الصين، وليس روسيا، هي من يملك وجوداً مباشراً وقويّاً في النيجر. وهي بالتالي الشريك في مسار التطوّرات. ويتمثّل هذا الوجود في ما يلي:

– قوات عسكرية أو شبه عسكرية، لا يُعرف حجمها بالطبع، لكنّها تتولّى بشكل علنيّ حماية مشاريع النفط والتعدين. وشهد العام الماضي نشر حوالي 700 جندي من هذه القوات لحماية أعمال بناء خط لأنابيب النفط.

– تتنافس الصين مع فرنسا على المرتبة الأولى في التبادل التجاري مع النيجر. وبلغت قيمة الصادرات الصينية حوالي 935 مليون دولار في عام 2022.

– فازت شركة البترول الوطنية الصينية بامتياز حقل نفط “أغاديم” Agadem في عام 2008. وقامت بحفر 166 بئراً. ولكنّ عمليات الاستغلال ما تزال معطّلة. وكانت الشركة باشرت في عام 2019 بناء خطّ للأنابيب بطول 2,000 كلم، لنقل الإنتاج إلى دولة بنين. وأعلنت الشركة أخيراً توقيع مذكّرة تفاهم مع وزارة البترول في النيجر لاستغلال العديد من المناطق النفطية.

تُعتبر النيجر مستعمرة فرنسية بكلّ معنى الكلمة. وذلك على الرغم من وجود قوات أميركية لمحاربة التنظيمات المتشدّدة، وعلى الرغم من وجود صيني اقتصادي واستثماري ما يزال متعثّراً ومعطّلاً بقرار فرنسي

– تمتلك الشركة النووية الوطنية الصينية CNNC امتياز استغلال منجم لليورانيوم، منذ عام 2007. لكن لم تتمكّن من البدء باستغلاله لأسباب ماليّة، كما تقول النيجر وفرنسا، ولأسباب إدارية وأمنيّة واعتداءات على العمّال، كما تقول الشركة الصينية. وكان آخرها في عام 2021، حين تمّ اختطاف بعض العمّال الصينيين.

– مشاريع متنوّعة في مجالات بناء المنازل والمستشفيات والجسور إلخ…

لا بدّ من التذكير هنا بالاتّفاقيات التي تمّ توقيعها في شهر نيسان الماضي، على هامش منتدى الاستثمار بين الصين والنيجر، وتتضمّن إطلاق مشاريع ضخمة في قطاعات التعدين والعقار والبنية التحتية وإنشاء منطقة صناعية.

“انشطار نوويّ” بين فرنسا والصين

من المعروف أنّ النيجر تُعتبر سادس منتج لليورانيوم في العالم. لكنّ الأهمّ أنّها تمتلك مخزوناً ضخماً غير مستغلّ وغير مكتشف. وتسيطر فرنسا من خلال شركة “أورانو” Orano على تعدين اليورانيوم منذ عام 1970. ويوفّر يورانيوم النيجر نحو 40 في المئة من احتياجات فرنسا لتوليد الكهرباء. ويوفّر حوالي 25 في المئة من كهرباء التدفئة لأوروبا. وتمكّنت فرنسا طوال العقود الماضية من منع وعرقلة محاولات كلّ الدول للمشاركة في تعدين اليورانيوم، بما فيها الصين.

عليه يصحّ القول إنّ الصين هي صاحبة مصلحة مباشرة في تغيير الوضع القائم في النيجر، بما يكفل تنفيذ مشاريع النفط واليورانيوم المتعثّرة أو المعطّلة، لكن بشرط أن لا يؤدّي ذلك إلى حرب واضطرابات تطيح بهذه المشاريع.

يوارنيوم النيجر “محرّم” على روسيا

لتبيان عدم دقّة الحديث عن دور روسيّ في النيجر، لا بدّ من التذكير بأنّ فرنسا وأوروبا وأميركا والصين لا يمكنها تقبّل فكرة اقتراب روسيا من اليورانيوم في النيجر. والسبب أنّ روسيا تسيطر بشكل مباشر وغير مباشر على حوالي 55 في المئة من الإنتاج العالمي من اليورانيوم الخام. فهي تمتلك حوالي 7 في المئة منه، وتتحكّم بإنتاج وطرق إمداد اليورانيوم في كازاخستان وأوزبكستان اللتين تمتلكان نحو 50 في المئة من الإنتاج العالمي. وعملاق اليورانيوم الروسي شركة “روس أتوم” تمتلك حصصاً مؤثّرة في مناجم اليورانيوم في كندا وأميركا وكازاخستان تجعلها ثاني أكبر منتج لليورانيوم في العالم.

أمّا الأخطر فهو سيطرة روسيا شبه المطلقة على صناعة وتجارة الوقود النووي لتشغيل محطّات توليد الكهرباء في العالم. ويشمل ذلك الولايات المتّحدة نفسها. إذ تستحوذ روسيا على حوالي 25 في المئة من اليورانيوم المخصّب المستخدم لتشغيل المفاعلات النووية التجارية الأميركية وعددها حوالي 96 مفاعلاً. وهو ما عبّر عن خطورته في 13 حزيران الماضي تقريرٌ صدر عن “مركز سياسة الطاقة” بجامعة كولومبيا حذّر من أنّ “روسيا يمكنها إقفال المفاعلات النووية الأميركية بقرار بسيط من شركة روس أتوم”. أمّا وزيرة الطاقة جينيفر غرانهولم فاعتبرت أنّ اعتماد الولايات المتحدة على الواردات الروسيّة “نقطة ضعف للأمن القومي والاقتصادي”.

يُشار إلى أنّ قيام روسيا بقطع أو تقليص إمدادات الغاز إلى أوروبا، جعلها في وضع المصدر غير الموثوق، وشكّل مصدر قلق وخطر محدق بالنسبة لأميركا وأوروبا والصين أيضاً. وذلك ما يفسّر حرص الصين على عدم الارتهان للغاز الروسيّ، ورفضها المتكرّر لطلب روسيا بناء خطّ جديد لنقل الغاز عبر منغوليا.

يصحّ القول إنّ الصين هي صاحبة مصلحة مباشرة في تغيير الوضع القائم في النيجر، بما يكفل تنفيذ مشاريع النفط واليورانيوم المتعثّرة أو المعطّلة، لكن بشرط أن لا يؤدّي ذلك إلى حرب واضطرابات تطيح بهذه المشاريع

احتمالان: الحرب أو تقاسم نفوذ

عند هذا الحدّ يمكن القول إنّ مسرح تطوّر الأحداث في النيجر يتمّ إعداده لأحد احتمالين:

الأوّل: مواجهة عسكرية مفتوحة لكن بأدوات إفريقيّة. طرفها الأوّل النيجر بقيادة السلطة العسكرية الجديدة، وبدعم مباشر من السلطات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو وغينيا، ومن ورائها روسيا والصين. وقد أعلنت هذه الدول صراحة أنّ “أيّ تدخّل عسكري في النيجر سيكون بمنزلة إعلان حرب علينا”. أمّا طرفها الثاني فهو التجمّع الاقتصادي لدول غرب إفريقيا الذي أمهل “الانقلابيين مهلة زمنية قصيرة لإعادة الحياة الدستورية، قبل استخدام القوّة لإعادتها”. وتحظى هذه الدول بدعم مباشر من فرنسا وأميركا.

الثاني: حصول الصفقة الموعودة بين الصين وأميركا لتقاسم النفوذ على حساب فرنسا وروسيا، وترسيخ الاستقرار في النيجر. وعندها لن يكون مهمّاً “الإخراج المسرحي”، سواء اتّخذ شكل تسوية مباشرة، أم حرباً خاطفة لإنضاج تلك التسوية. ولن تكون مهمّةً طبيعةُ النظام في النيجر، سواء انتصرت الديمقراطية وتمّت إعادة الرئيس بازوم إلى الحكم، أو تمّ تثبيت السلطة العسكرية. 

لكن إذا تمّت تلك الصفقة، فالمرجّح أن تشكّل النيجر نموذجاً يتمّ تعميمه على دول إفريقيّة أخرى، وربّما على بقيّة مناطق النزاع في المنطقة، ستصبح بموجبه “فاغنر” ومن ورائها روسيا “جنديّاً في جيش شي جينبينغ”، بما يعزّز أوراق قوّته الاقتصادية والاستثمارية عبر إضافة ورقة القوّة العسكرية على الأرض، وستصحّ مقولة إنّ حرب أوكرانيا حوّلت روسيا من دولة عظمى إلى قوّة إقليمية ملحقة بالصين وحسب. 

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…