بفاصل ساعات عن احتفال أعلن خلاله وزير السياحة اللبناني وصول ما يقارب مليون ومئة ألف سائح إلى لبنان هذا الصيف، عصف بالبلاد بيان صدر عن سفارة المملكة العربية السعودية في لبنان، وتّر الأجواء واستدعى اتصالات خارجية وداخلية للوقوف على حقيقة المعطيات التي بُني على أساسها. دعت السفارة في هذا البيان رعايا المملكة إلى “مغادرة الأراضي اللبنانية على وجه السرعة، على خلفيّة الاشتباكات المسلّحة التي اندلعت بين الفصائل الفلسطينية في مخيّم عين الحلوة”، وحذّرت مواطنيها من “الوجود والاقتراب من المناطق التي تشهد نزاعات مسلّحة”.
لكنّ المفاجئ في البيان الذي صدر منتصف ليل أمس الأوّل كان الطلب إلى الرعايا السعوديين “مغادرة الأراضي اللبنانية بسرعة، والتقيّد بقرار منع سفر السعوديين إلى لبنان”. ولم يلبث أن تلاه في الصباح الباكر بيان صدر عن سفارة الكويت أخفّ وطأة اكتفى بأن دعا الجالية الكويتية إلى “التزام الحيطة والحذر والابتعاد عن مواقع الاضطرابات الأمنيّة في بعض المناطق”.
لاحقاً، دعت وزارة خارجية مملكة البحرين رعاياها إلى مغادرة لبنان، وحذّرت من “الاقتراب من مناطق النزاع”، حفاظاً على سلامتهم.
ووجّهت السفارة الألمانية نداءً عاجلاً إلى رعاياها في ?لبنان “بضرورة الاتصال وتحديث بياناتهم وأماكن وجودهم والابتعاد عن منطقة الاشتباكات”.
السعوديّة هي الأساس
على الرغم من صدور بيانين كويتي وألماني، بقي وقع البيان السعودي أشدّ وطأةً وأكثر مدعاةً للقلق. بالتأكيد وصلت الرسالة إلى من يعنيهم الأمر ويمكن أن يُبنى عليها في المستقبل القريب. فقد أثار البيان حالة إرباك وهلع في أوساط المواطنين اللبنانيين والمسؤولين ممّن لم تكن لديهم أيّ معطيات تشير إلى صدور مثل هذا البيان.
قلّلت مصادر دبلوماسية لبنانية من احتمال وجود خلفيّات أمنيّة لما تضمّنه البيان السعودي، بدليل أنّ السفير السعودي في لبنان وليد بخاري سيقوم بلقاءاته كالمعتاد الأسبوع المقبل
تكشف مصادر حكومية لـ”أساس” أنّ “المعطيات الأوّلية لم تكن توحي بوجود ما يستدعي صدور مثل هذا البيان، خصوصاً أنّ الاتصالات المتعلّقة بالوضع الأمني في مخيّم عين الحلوة كانت قطعت ليلاً مرحلة متقدّمة وما كان من موجب يستدعي صدور بيان كهذا لم يكن المسؤولون في لبنان على علم مسبق به”.
في ساعات الصباح الأولى سارعت وزارة الخارجية اللبنانية إلى الاستفسار عن التطوّرات التي استدعت إصدار البيان السعودي الذي تبعه البيانان الكويتي والألماني، فكان تأكيد من الجهات المعنيّة أن لا خلفيّات أمنية بل مجرّد عمل روتيني تقتضيه الظروف.
كشفت مصادر لصيقة بالملفّ لـ”أساس” أنّ السفارة السعودية تبلّغت بوجود رعايا لها دخلوا لبنان بطرق غير شرعية خلافاً للقرار السعودي الساري المفعول بعدم سفر المواطنين السعوديين إلى لبنان، فكان لازماً إصدار بيان كهذا لرفع المسؤولية عن كاهل السفارة. وجزمت المصادر أنّ “ما تبلّغته الدوائر المعنيّة من أجواء السفارة السعودية يؤكّد انتفاء الأسباب الأمنيّة الموجبة”.
أمّا البيان الكويتي فجاء بطلب من نواب كويتيين رأوا أنّه ضروري الالتحاق بالخطوة السعودية، فأصدرت السفارة بياناً أقلّ تحذيراً من البيان السعودي، إذ لم تدعُ رعاياها إلى المغاردة وإن طلبت منهم أخذ الحيطة والحذر.
أمّا لناحية البيان الألماني فتقول مصادر دبلوماسية رسمية لـ”أساس” إنّ “السفارة الألمانية بحكم مشاريع بلادها الموزّعة على الأراضي اللبنانية أصدرت بيانها، وهي في الأساس من مناصري التضييق على لبنان ومواقف ديبلوماسيها دائماً متشنّجة”.
الأجهزة الأمنيّة: لا معطيات تقلق
بالموازاة أجرت جهات سياسية لبنانية سلسلة اتصالات مع قادة الأجهزة الأمنيّة للاستفسار منهم بشأن وجود معطيات تشير إلى عمل أمنيّ ما أو أحداث أمنيّة تستدعي هذه اللجهة في البيان السعودي وما تبعه، فتبيّن أنّ الأجهزة الأمنيّة لم تكن لديها أيّ معطيات مماثلة.
قلّلت مصادر دبلوماسية لبنانية من احتمال وجود خلفيّات أمنيّة لما تضمّنه البيان السعودي، بدليل أنّ السفير السعودي في لبنان وليد بخاري سيقوم بلقاءاته كالمعتاد الأسبوع المقبل.
هذا في الوقائع. أمّا في الخلفيّات فتضعها المصادر في سياق بيان اللجنة الخماسية التي اجتمعت أخيراً في الدوحة الذي تحدّث عن فرض عقوبات على مسؤولين لبنانيّين على خلفيّة التخلّف عن انتخاب رئيس للجمهورية.
قالت المصادر إنّ تلويح أعضاء اللجنة الخماسية باحتمال فرض عقوبات على معطّلي انتخاب رئيس للجمهورية أو المعرقلين، مردّه إلى نقاشات جرت بين ممثّلي الدول الأعضاء في سبل فرض عقوبات وإمكانية أن تتبنّى الدول العربية ودول الخليج أيّ عقوبات تفرضها أميركا أو أوروبا على المسؤولين والإشارة إليهم بالأسماء.
تكشف مصادر حكومية لـ”أساس” أنّ المعطيات الأوّلية لم تكن توحي بوجود ما يستدعي صدور مثل هذا البيان، خصوصاً أنّ الاتصالات المتعلّقة بالوضع الأمني في مخيّم عين الحلوة كانت قطعت ليلاً مرحلة متقدّمة
عقوبات أميركيّة على برّي
سبقت البيانات الثلاثة رسالةٌ بعثت بها لجنة الخارجية في الكونغرس الأميركي إلى الرئيس الأميركي جو بايدن في الذكرى الثالثة لتفجير الرابع من آب، ووقّعها رئيس اللجنة السيناتور الأميركي جايمس ريتش، ودعت الإدارة الأميركية إلى “استخدام كلّ الوسائل الدبلوماسية المتاحة لتقديم المصالح الأميركية وإلّا فسيسقط لبنان في قبضة إيران”. واعتبرت الرسالة أنّ “ما جرى في الجلسات الأخيرة لانتخاب رئيس لبناني أثبت أنّ رئيس المجلس النيابي نبيه برّي هو امتداد للحزب، إذ استخدم الإجراءات البرلمانية لمنع انتخاب رئيس للجمهورية”. ورحّبت بمطالبة دول أوروبية بفرض عقوبات على برّي.
إلى ذلك أكّدت الرسالة ضرورة مواصلة دعم الجيش اللبناني لأنّه المؤسّسة الوحيدة التي ما تزال قادرة على لعب دور رادع بوجه الحزب.
ظهراً لحقت بلجيكا بالموجة وأصدرت بياناً ينبّه رعاياها من السفر إلى مناطق التوتّر في لبنان.
قالت مصادر الخارجية لـ”أساس” إنّ كلّ البيانات إنّما صدرت على خلفيّة الاشتباكات التي شهدها مخيّم عين الحلوة في صيدا، مستغربةً كيف تفاقمت تحذيرات الدول فيما كانت المعالجات تنجح في وقف الحرب الدائرة بين الفصائل الفلسطينية. لكنّها استدركت بالقول إنّ وقف الاشتباكات يعني نهاية جولة لا وقف المواجهات، وإنّ ثمّة خشية من عودة الاغتيالات بين صفوف الفصائل الفلسطينية بعدما تبيّن نموّ الجماعات الإسلامية داخل المخيّم على حساب وجود حركة فتح وقوّتها وسيطرتها.
بلجيكا.. وشمال الليطاني
إذاً بين أسباب سياسية أو خلفيّات أمنيّة توزّعت القراءات لبيانات الدول المتتالية التي دعت رعاياها إلى التنبّه من الوجود في مناطق التوتّر في لبنان، خصوصاً أنّ بلجيكا تحدّثت عن مخاطر “شمال الليطاني”، وهو ما عزّز الخشية من وجود معلومات عن إعداد إسرائيل لعمل أمنيّ أو عسكري جنوب لبنان.
إقرأ أيضاً: من يسعى للسّيطرة على المُخيّمات الفلسطينيّة؟
استبعدت مصادر أمنيّة مثل هذه الفرضية، وقالت إنّ الداخل الإسرائيلي ليس بوارد دخول حرب على الحدود، والحزب كذلك، وإنّ توالي البيانات يمكن حصر أسبابه بالمخيّمات الفلسطينية ووضعها القلق وتأخّر انتخابات الرئاسة في لبنان.
لكن ألا يستدعي الوضع في لبنان القلق؟
هذا السؤال يجيب عليه سياسيون وأمنيّون بالإيجاب لأنّ حرب المخيّمات عيّنة يمكن أن تتوسّع والأعمال الأمنيّة يمكن أن تقع والاغتيالات يمكن أن تعود. لكن هل كان يستدعي كلّ ذلك سيلاً من البيانات كالتي صدرت؟ أم هي بيانات سياسية وتنبيه للرعايا وحسب؟ أم مؤشّرات إلى معلومات عن عمل أمنيّ واسع؟