بدأ زعيم التيار السيّد مقتدى الصدر في الأسابيع الأخيرة مساراً تصاعدياً على خلفيّة أزمة حرق القرآن في مملكة السويد، وصولاً إلى تنظيم استعراض عسكري قبل أيام في وسط العاصمة العراقية بغداد قامت به قوات من ميليشيا سرايا السلام – الجناح العسكري للتيار الصدري. والهدف من هذا الحراك، إعادة حشد قواعد التيار الصدري، وإظهار قدرتها على قلب الموازين، خاصة أنّه يأتي على مسافة قليلة من انتخابات مجالس المحافظات، في رسالة واضحة للقوى السياسية ولحكومة السوداني الممثّلة لخصومه في “الإطار التنسيقي” بأنّ المهلة التي منحها لهذه الحكومة قد شارفت على الانتهاء. وهو كما وعد سيمارس حقّه في الاعتراض إمّا لتصويب مسارها أو إسقاطها إذا ما فشلت في تحقيق التوازن التنموي والضرب بشدّة في موضوع مكافحة الفساد والسيطرة على السلاح المنفلت والمتفلّت الذي يسعى إلى مصادرة الدولة وقرارات الحكومة.
لكن من الصعب حصر الاستعراض العسكري في بُعد واحد على علاقة بالصراع بين التيار الصدري و”الإطار التنسيقي” ممثّلاً بالحكومة برئاسة محمد شياع السوداني، أو في محاولة هذا الجناح العسكري المحافظة على الستاتيكو القائم بينه وبين فصائل الحشد الشعبي في محيط المنطقة الخضراء التي تمثّل المركز السياسي والدبلوماسي للدولة العراقية.
بدأ زعيم التيار السيّد مقتدى الصدر في الأسابيع الأخيرة مساراً تصاعدياً على خلفيّة أزمة حرق القرآن في مملكة السويد
في الظاهر، جاء تحرّك سرايا السلام وتعزيز وجودها العسكري في مبنى “المطعم التركيّ” في قلب العاصمة بغداد ردّاً على محاولة وزير الداخلية وقوات الشرطة الاتحادية رفع مستوى سيطرتها على هذا المبنى، الذي يُعتبر موقعاً استراتيجياً مشرفاً على ساحة التحرير ويقع على مشارف أسوار المنطقة الخضراء، ويُعتبر موقعاً متقدّماً في أيّ صدام عسكري قد يحصل ما بين هذه السرايا وفصائل من الحشد الشعبي تابعة لأحزاب “الإطار التنسيقي”.
“المطعم التركي”، هو مبنى مؤلّف من 13 طابقاً أُقيم ليكون مركزا للتسوّق في تسعينيات القرن الماضي، ثمّ تحوّل عام 2000 إلى مقرّ لهيئة الشباب والرياضة التي يشرف عليها عدي صدّام حسين، إلا أنّه أُهمل بعد تعرّضه لقصف بقذائف ملوّثة من القوات الأميركية التي احتلّت بغداد، وبقي مهجوراً حتى عام 2019 حين بدأ حراك تشرين، فتحوّل إلى موقع رمزي لهذا الحراك بعدما استطاع المنتفضون السيطرة عليه وإخراج عناصر القوّات المسلّحة منه بعد اتّهامها باستخدامه لقنص المتظاهرين.
وكانت سرايا السلام تولّت هذه المهمّة في إطار مساعي تفكيك حراك تشرين وإنهائه، فقامت بإخراج التشرينيّين منه وحوّلته إلى موقع عسكري متقدّم لها على أبواب المنطقة الخضراء يعطيها القدرة على التحرّك السريع للردّ على أيّ تحرك قد تقوم به الفصائل التي تملك مقرّات وثكنات كبيرة داخل المربّع الأمني للمنطقة الخضراء. وقد استخدمته بشكل فاعل في دعم اقتحام البرلمان والاشتباك المسلّح الذي خاضته العام الماضي مع فصائل الحشد الشعبي والذي أدّى إلى سقوط نحو 100 قتيل من الطرفين.
الفخ المنصوب
يبدو من الصمت المطبق للصدر ووزيره صالح محمد العراقي وغياب أيّ تعليق على التطوّر الأمني الذي حصل في قلب العاصمة بغداد، أنّ زعيم التيار قد وقع في الفخّ الذي نُصب له في موضوع الفصائل المسلّحة، إذ من المفترض أنّ الجناح العسكري للتيار المتمثّل بسرايا السلام هو جزء من قوات هيئة الحشد الشعبي، ومن المفترض أن يأتمر بقرارات وتوجيهات القائد العامّ للقوّات المسلّحة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، خاصة في ظلّ الشعار الذي يرفعه الصدر والداعي إلى محاربة الفصائل “الوقحة” التي استباحت حرمة الدولة عندما احتلّت المنطقة الخضراء، وهاجمت رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، وقادت القتال ضدّ شباب التيار وسرايا السلام عندما حاولت دخول المنطقة قبل سنة.
وتلتزم قوى وأحزاب وفصائل “الإطار التنسيقي” بكثير من الخبث السياسي ضبط مواقفها وعدم الذهاب إلى التصعيد بوجه هذا التحرّك لسرايا السلام، وتتمسّك بضرورة الوقوف وراء أيّ إجراء يقوم به السوداني بصفتَيْه السياسية والعسكرية. وذلك من أجل ضبط إيقاع التطوّرات عند الحدّ الأدنى وقطع الطريق على أيّ انفجار أمنيّ لا تريده في هذا التوقيت، وقد يؤدّي إلى إشعال حرب داخل البيت الشيعي وفي محافظات الوسط والجنوب. وهو موقف يلتقي مع الموقف الضمنيّ للصدر الذي يخاف الوصول إلى هذا المستوى من المواجهة، خاصة بعدما لمس في أحداث العام الماضي التداعيات السلبية التي قد تنتج عن مثل هذه المواجهة والتي اضطرّته إلى التنصّل من المسؤولية وإعلان أنّ “القاتل والمقتول في النار”.
يبدو من الصمت المطبق للصدر ووزيره صالح محمد العراقي وغياب أيّ تعليق على التطوّر الأمني الذي حصل في قلب العاصمة بغداد، أنّ زعيم التيار قد وقع في الفخّ الذي نُصب له في موضوع الفصائل المسلّحة
تململ في تيار الصدر
تمتنع قوى “الإطار” عن إعطاء أيّ ذريعة لجرّ الصراع إلى مواجهة مفتوحة، وتكتفي بالجلوس على التلّ بانتظار ما سيسفر عنه الصراع الداخلي في أروقة التيار الصدري على خلفيّة الاعتراضات التي بدأت تتصاعد بسبب قرار اعتزال العملية السياسية الذي اتّخذه الصدر، إذ يرى الجناح المعترض في التيار ضرورة العودة إلى النشاط السياسي وعدم التخلّي عن الفرصة التي تتيحها انتخابات مجالس المحافظات من أجل الإمساك بمفاصل الحكومات المحلّية للمحافظات ومجالسها المنتخبة. وهنا يمكن تفسير الحراك أو التحرّك العسكري ورفع مستوى التحدّي الذي مارسته سرايا السلام، الجناح العسكري للتيار الصدري، سواء من خلال التوتّر الذي حصل بينها وبين القوى الأمنيّة التابعة لقيادة العمليات المشتركة التي لجأت إلى قطع مخارج مدينة الصدر على أطراف العاصمة بغداد ومنعت جماعة التيار من الخروج باتجاه السفارة الدنماركية خوفاً من تكرار ما حصل من حرق للسفارة السويدية، أو من خلال المسارعة إلى إعادة تثبيت مواقعها في “المطعم التركي” وسط بغداد وعلى مدخل المنطقة الخضراء، وهو ما يعني خروج هذه السرايا عمّا تؤكّده من التزام بالقرار الرسمي لقيادة القوّات المسلّحة، فعادت بذلك إلى موقعها الذي لا يختلف عن موقع بقيّة الفصائل التي تعمل من أجل أهدافها ومصالحها على حساب مصالح الدولة.
إقرأ أيضاً: حرق المصحف في السويد: تكرار المشهد وتنميط الصورة
الصدر أمام مفترق طريق
قد يكون على الصدر في المرحلة المقبلة اتّخاذ موقف دقيق ومصيري، فإمّا كسر قرار العزلة والعودة إلى المشاركة على الأقلّ من بوّابة انتخابات مجالس المحافظات، وبالتالي يكون رضخ للضغوط داخل تيّاره الممتعض من حجم الخسائر التي لحقت به نتيجة قرار الاستقالة، وإمّا أن يذهب إلى مزيد من التمسّك بقراره ضمن استراتيجية تعميق أزمة “الإطار” وفشله في السلطة، إلا أنّ الخاسر الأكبر في كلّ هذه العملية لن يكون سوى الدولة العراقية التي بدأت تتحوّل إلى مؤسّسة لإدارة الأزمة تعمل ضمن الهامش الذي تسمح به مصالح القوى السياسية، خاصة أنّ هذه الحكومة تبدو عاجزة عن تقديم حلول عمليّة ومعالجات حقيقية للأزمات التي تفجّرت بوجهها في الأسابيع الماضية، ولا سيّما أزمة جفاف نهرَي دجلة والفرات التي تنتج عنها أزمة نزوح وأزمات غذائية معيشية. أمّا أزمة العقوبات الأميركية على 14 مصرفاً عراقياً متّهمة بتهريب العملة الصعبة إلى إيران ومساعدتها في الالتفاف على العقوبات، فقد انعكست على سعر صرف الدولار أمام العملة الوطنية التي تراجعت بشكل كبير منذرة بأزمة اقتصادية ومعيشية حقيقية قد تكون وقود الانفجار المحتمل. وهذه الأزمات يزيدها تفاقماً فشل الحكومة في تقديم حلول مرحلية على الأقلّ لأزمة الكهرباء، خاصة أنّ هذه الأزمة في جزء منها خاضعة لمزاج إيران المطالِبة بأموال بيع الغاز إلى العراق، والتي بدورها تواجه أزمة داخلية بسبب نقص إمدادات الكهرباء.