حركات التطرّف والشعبوية ليست ظاهرة جديدة في العالم، لكنّ الأسباب التي تعيد إحياءها تتغيّر بين حقبة وأخرى، وهذا هو الواقع اليوم في العالم الغربي الذي يشهد صعوداً للتيّارات الشعبية في أوروبا وفي دول لطالما اشتهرت مجتمعاتها بالاعتدال وقيادتها بالوسطيّة، التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية كردّة فعل على ما عانته أوروبا نتيجة العصبيّات العرقية والقومية.
تأتي الشعبوية المستجدّة بعدما فشلت الديمقراطيّات الليبرالية في حلّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة التي عادة ما تؤدّي إلى صعود وسقوط الحكومات في الأنظمة الديمقراطية.
استغلال الغضب الشعبيّ
لا يكون نجاح التيّارات الشعبوية عادة نتيجة طروحات وأفكار منافسة تسعى إلى إيجاد حلول، إنّما في غالب الأحيان يأتي نتيجة استغلال للغضب الشعبي الناجم عن خيبات الأمل من الحكومات وتوظيفه في الترويج لأيديولوجيات متطرّفة أو لخدمة طموحات شخصية.
من المقلق أنّ دولاً مثل إيطاليا وألمانيا وإسبانيا عانت تاريخياً من الفاشية والنازية، تشهد صعوداً ثابتاً للتيّارات الشعبوية المتطرّفة. وعلى الرغم من نكسة اليمين المتطرّف أخيراً في الانتخابات الإسبانية إلا أنّ فوز اليمين في الانتخابات المحلّية ما زال يلقي بظلاله على إسبانيا التي كانت تُعتبر معقلاً للّيبرالية في أوروبا. والنمط السائد هو تعاظم انتشار الأفكار الشعبوية المتطرّفة.
لقد تحوّلت الانتخابات في أوروبا في السنوات الأخيرة إلى استفتاءات عن قوّة التيارات المتطرّفة والشعبوية التي تحقّق تقدّماً ثابتاً في معظم الدول الأوروبية. وحقّقت التيارات الشعبوية المتطرّفة واليمينية تقدّماً في إيطاليا، السويد، فرنسا، اليونان، ألمانيا والمجر، وليست ظاهرة البريكسيت في بريطانيا خارج المزاج الشعبي العامّ في أوروبا والموجة التي ضربت المجتمعات الغربية وصولاً إلى الولايات المتحدة.
تركّز الأحزاب اليمينية والتيارات الشعبوية في سعيها إلى الوصول إلى السلطة وأثناء الحملات الانتخابية على قضايا تلاقي صدى لدى الرأي العامّ
ومن انعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية ارتفاع أسعار الطاقة الذي عانى منه الأوروبيون في فصل الشتاء نتيجة ارتفاع كلفة التدفئة. وألقت المساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا بكاهلها على الاقتصادات الأوروبية وزادت من معدّلات التضخّم والبطالة وتراجع معدّلات النموّ. وأتت الحرب الأوكرانية والعالم ما يزال يترنّح من جرّاء أزمة جائحة كورونا التي أرهقت العالم على المستويات كافّة وزادت من شعور متنامٍ لدى طبقات ميسورة في المجتمعات الأوروبية تعتقد أنّ الديمقراطيات الليبرالية خذلتها، وخصوصاً في الأيام الأولى لانتشار الجائحة التي عصفت في أوروبا الغربية.
هكذا تعمل التيّارات الشعبويّة
تركّز الأحزاب اليمينية والتيارات الشعبوية في سعيها إلى الوصول إلى السلطة وأثناء الحملات الانتخابية على قضايا تلاقي صدى لدى الرأي العامّ، ومنها:
1- الأوضاع الاقتصادية: ازدياد البطالة وتراجع النموّ الاقتصادي أدّيا إلى زيادة الاحتقان والاستياء بين الناس وجعلهم ينجذبون للتيّارات الشعبوية التي تعِد بحلول سريعة.
2- الهجرة: ارتفاع أعداد المهاجرين واللاجئين يثير مخاوف وانقسامات في المجتمعات الأوروبية، وهو ما ساهم في زيادة دعم الناس للأحزاب الشعبوية التي تعتمد على رفض الهجرة وتعزيز الحدود في خطابها السياسي.
3- التحدّيات الثقافية والهويّة: أدّت التحدّيات التي تواجهها المجتمعات المتعدّدة الثقافات إلى زيادة القلق بشأن الهويّة والثقافة، وهذا دفع بعض الناخبين إلى الانجذاب للتيّارات الشعبوية التي تعتبر الحفاظ على الهويّة التقليدية أمراً مهمّاً.
4- شعور بالمغالاة في الالتزام بالمداراة أو الصوابية السياسية، وتحديداً في ما يخصّ المثلية الجنسية، الأمر الذي استفزّ المجتمعات المحافظة المسيحية. وعلى الرغم من تجنّب المرشّحين المحافظين الخوض في المواضيع الاجتماعية التي ينقسم المجتمع الأوروبي حولها، إلا أنّ العامل الديني المسيحي التقليدي في أوروبا يلعب دوراً كبيراً في استمالة الناخبين للطروحات المحافظة التي تأخذ منحى شعبوياً هذه الأيام.
تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً في تعزيز هذه التيارات بنشر أفكارها وآرائها بشكل واسع وسريع، وتعتمد الشخصيات الشعبوية على هذه الشبكات لمخاطبة الناخبين مباشرة من دون المرور بوسائل الإعلام التقليدية التي تُتّهم عادة بأنّها ليبرالية التوجّه. لا توجد مؤشّرات إلى أنّ الأسباب التي أدّت إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في طريقها إلى الزوال قريباً. فحروب الشرق الأوسط ومجتمعات النزاع ستبقى تصدّر نازحين إلى أوروبا، واقتصاد المجتمعات الصناعية بحاجة إلى يد عاملة رخيصة للاستمرار، بالإضافة إلى جشع الشركات التي تسعى إلى زيادة أرباحها فتهاجر إلى دول حيث العمالة رخيصة، فيزيد غضب السكّان المحلّيين نتيجة تدنّي الرواتب وفقدان فرص عمل لصالح المهاجرين الجدد.
أنجبت الديمقراطية الأوروبية في القرن الماضي ديكتاتوريات كأمثال موسوليني وهتلر اللذين وصلا إلى الحكم عبر انتخابات استغلّت مشاعر الغضب والنقمة في بلدَيهما بعد الحرب العالمية الأولى ونتيجة الأوضاع الاقتصادية المتردّية. وحتى وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لم يستطع الخطاب الشعبوي أن يوصل رئيساً إلى البيت الأبيض على الرغم من وجود حركات محافظة متطرّفة في الولايات المتحدة. لكنّ المجتمع الأميركي كان دائماً يختار الوسطيّة.
إقرأ أيضاً: هزيمة روسيا تبشّر بقيام نظام عالميّ جديد
سيكون العام المقبل حاسماً في تحديد خيارات المجتمع الغربي. كيف ستنتهي الحرب في أوكرانيا ومستقبل روسيا ومصير الانتخابات الرئاسية الأميركية ستساهم إلى حدّ كبير في رسم مستقبل الحكومات الغربية والتيارات السياسية فيها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mouafac@