لا يتّجه المشهد السياسي على الساحة العراقية نحو التهدئة لأنّ الغيوم السياسية التي بدأت تتشكّل داخل فضاءات مكوّناته المذهبية والدينية والقومية تنذر بمتغيّرات تطال أوزان قوى وأقطاب سياسيين كانوا يتفرّدون بالإمساك بقرارات ومصالح مكوّناتهم.
ليس بالحدث العابر ما حصل مع المطران لويس ساكو، زعيم الكنيسة الكلدانية والكاثوليكية في العراق والعالم، الذي أصدر الرئيس لطيف رشيد مرسوماً جمهورياً سحب منه بموجبه رئاسة الكنيسة الكلدانية وصلاحية الإشراف على الأوقاف، بل هو مؤشّر إلى حجم الصراعات القائمة داخل المكوّن المسيحي، وتحديداً الكلدانيين، وإلى التنافس الكردي بين إربيل (مسعود بارزاني) والسليمانية (بافل طالباني) على استقطاب المكوّن المسيحي، خصوصاً أنّ هذا المرسوم تزامن مع صراع بين رأس الكنيسة المطران ساكو وزعيم ميليشيا الحشد المسيحي ريان الكلداني، الساعي إلى الإمساك بمفاصل قرار المكوّن ومصادره المالية وأملاكه وإدارة مصالحه وتمثيله السياسي والعسكري.
أثار هذا التطوّر قلق العديد من الجهات الداخلية والدولية، إذ عبّرت الولايات المتحدة عن قلقها من تداعيات المرسوم الجمهوري لِما يشكّله من “ضربة للحرّية الدينية”. في حين أعرب الفاتيكان من خلال سفارته في العراق عن أسفه “للتعامل غير اللائق مع البطريرك مار لويس ساكو”. وقد ردّ البطريرك بمغادرة بغداد والانتقال إلى إربيل ليكون تحت رعاية قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني والبارزاني.
يمسك الصدر بالعصب الذي يُقلق قوى “الإطار التنسيقي” الساعي إلى تنظيم علاقاته مع المجتمع الدولي لتكريس سيطرته على السلطة والاعتراف بشرعية هذه الأحزاب
في المقابل، لا تسير الأوضاع داخل المكوّن الشيعي وفق ما تشتهي قياداته وفصائله التي استطاعت فرض إرادتها في تشكيل الحكومة برئاسة محمد شياع السوداني بما يخدم مصالحها السياسية ويضمن لها الإمساك بالقرارات على مختلف المستويات الأمنيّة والاقتصادية والسياسية. فهي من جهة تعيش صراعاً حادّاً بين أقطابها من أجل الاستئثار بإدارة الدولة، ويتخوّف العديد منهم من الطموحات الكبيرة لزعيم جماعة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي الذي يعتبر نفسه العرّاب الحقيقي للحكومة ورئيسها، ولذا يتصرّف وكأنّه الآمر الناهي من دون أخذ الشركاء الآخرين بالاعتبار. ومن المرجّح أن تزداد حدّة التوتّرات بين هذه الأقطاب كلّما اقترب موعد الانتخابات المحلّية في المحافظات في كانون الأوّل المقبل.
الخوف من الصدر
من جهة أخرى، تعيش قيادة “الإطار التنسيقي” كلّها حالة قلق كبيرة نتيجة جهلها بما يخطّطه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر. وبدأت تعتقد بأنّ الفرصة أو المهلة الزمنية التي منحها الصدر لـ”الإطار” والحكومة بعد قرار انسحابه من الحياة السياسية والبرلمانية قد شارفت على نهايتها. وما دعوة الصدر لجمهور تيّاره إلى التظاهر رفضاً لحرق القرآن سوى اختبار أو جسّ نبض لردّة فعل خصومه داخل المكوّن الشيعي، واستعراض قوّة أمام المكوّنات الأخرى، خاصة القوى والأحزاب التي تخلّت عن التحالف معه وسهّلت لـ”الإطار” الإمساك بقرار الدولة.
لقد انتقل الصدر إلى مرحلة متقدّمة في توظيف شارعه الشعبي. وهذه المرّة أعاد التركيز على هدفه التاريخي في صراعاته السياسية، من خلال التصويب على غريمه الرئيس على الساحة الشيعية ومنافس “آل الصدر” في التمثيل السياسي، حزب الدعوة الإسلامية وزعيمه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، من بوابة اتّهام الأخير بالوقوف وراء حملة تشويه صورة الزعيم الروحي للتيار محمد صادق الصدر، والد مقتدى، وبأنّه “صنيعة النظام السابق” و”كان على تنسيق مع حزب البعث”، فأُحرقت في ليلة واحدة غالبية مقرّات حزب الدعوة في محافظات الوسط والجنوب.
في حال نجح في السيطرة على الانتخابات المحلّية، فلن يكتفي بهذا النصر، بل سيستمرّ في معركته حتى إخراج خصومه، وتحديداً حزب الدعوة، من موقع القرار نهائياً
الصدر يواجه أميركا
يمسك الصدر بالعصب الذي يُقلق قوى “الإطار التنسيقي” الساعي إلى تنظيم علاقاته مع المجتمع الدولي لتكريس سيطرته على السلطة والاعتراف بشرعية هذه الأحزاب. وهو لم يتردّد في تبنّي حرق عناصر تيّاره مقرّ السفارة السويدية في بغداد، ومهاجمة الإدارة الأميركية التي رفعت في الأشهر الأخيرة من درجة تنسيقها مع قادة أحزاب “الإطار” الموالين لإيران من خلال الحراك واللقاءات والتوجيهات التي تقوم بها السفيرة الأميركية في بغداد آنا رومانيسكي التي دفعت من خلال نشاطها الذاكرة العراقية إلى استعادة الدور الذي قام به رئيس الإدارة المدنية للاحتلال الأميركي بول بريمر بعد 2003.
في هذا السياق، لا يمكن حصر المؤتمر الصحافي المقتضب الذي عقده الصدر في مسألة أو أزمة حرق القرآن والعلَم العراقي وصورته أمام السفارة العراقية في العاصمة السويدية استوكهولم، فالرجل كسر العزلة التي فرضها على نفسه بعد قرار انسحابه من الحياة السياسية، وتشدّد فيها بعد أزمة جماعة “أصحاب القضيّة” التي كانت تستعدّ لإعلانه “الإمام الثاني عشر لدى الشيعة المهدي المنتظر”.
يحمل الخروج من هذه العزلة أكثر من رسالة:
أوّلاً: لتيّاره الذي عبّر عن حالة احتقان كبيرة جرّاء ما يشاهده من هيمنة خصومه على مقدّرات الدولة وإقصائه عنها.
ثانياً: تأطير هذه التحرّكات والاحتجاجات بعناوينها المختلفة وشحن الجمهور للقفز على الانتخابات المحلية وانتخابات المحافظات التي تشكّل أرضية للسيطرة على حكومات المحافظات ومجالسها، وبالتالي العودة شريكاً قويّاً ونافذاً من بوّابة هذه الانتخابات.
ثالثاً: أمّا الرسالة الأهمّ والأخطر فهي لخصومه في أحزاب “الإطار”، ومفادها أنّ فترة السماح قد انتهت، وحان الوقت لتصحيح المسار كما يراه ويريده، وأنّ الآتي سيكون مختلفاً عمّا مضى، وأنّه لن يسمح باستمرار الوضع القائم الذي يسمح لهم بتكريس نفوذهم على حسابه وحساب ومصالح جماعته. وقد استغلّ حالة القلق التي تعيشها هذه الأحزاب من اللحظة التي يقرّر فيها العودة إلى الفعل السياسي وكيفيّة هذه العودة. وربّما تكون الخطوة التصعيدية التي قامت بها حكومة السوداني باستدعاء سفيرها في السويد والطلب من السفيرة السويدية مغادرة الأراضي العراقية، خطوةً استباقيةً، مخافة أن يضعها الصدر أمام هذا الخيار في مؤتمره الصحافي، وهو ما يعطي صورة بأنّه ما يزال المتحكّم بالقرار حتى مع ابتعاده عن المشهد.
إقرأ أيضاً: العراق: “التنسيقي” الشيعي يعمل على “فتفتة” الأكراد والسنّة…
حرب أهليّة؟
ما بين هذه التحرّكات بعناوين مختلفة التي يقوم بها الصدر وتيّاره وبين الانتخابات المحلّية (انتخابات المحافظات) وستجري في شهر كانون الأول 2023، تحتلّ الانتخابات المحلّية أهميّة مفصليّة في رسم المشهد العراقي المقبل. إذ من المفترض أن تكون معركته الأخيرة. ففي حال فشله في تحقيق النتيجة التي تكرّسه زعيماً للشارع الشعبي الشيعي والممثّل الأكبر له، إن لم يكن الوحيد، فلن يكون أمامه حينئذٍ سوى الانكفاء والتراجع والتمسّك برفض الهزيمة، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية الذهاب إلى خيار الاحتجاج وتحريك الشارع حتى لو أدّى ذلك إلى تفجير حرب أهلية.
أمّا في حال نجح في السيطرة على الانتخابات المحلّية، فلن يكتفي بهذا النصر، بل سيستمرّ في معركته حتى إخراج خصومه، وتحديداً حزب الدعوة، من موقع القرار نهائياً. فهو لن يرضى بأنصاف الحلول، نتيجه ما تكوّن لديه من عقيدة بأنّ التعايش مع المالكي وحزب الدعوة سيفتح الطريق أمام هذا الحزب لإعادة ترميم أوضاعه والعودة إلى منافسته. فـ”التيار” و”الدعوة” ضدّان نوعيّان يتصارعان على أرضية مرجعية واحدة تمثّل البعد العقائدي والأيديولوجي لهما، لذا من الصعب أن يتعايشا خارج تسوية يُجبَران عليها.