لم يكن نواب حاكم مصرف لبنان الأربعة يتوقّعون استقبالهم استقبال الفاتحين في مجلس النواب، إلّا أنّ الإجماع على صلبهم كشف السرّ الشائع، وهو أنّ ما يسمّى “سياسات رياض سلامة” ليس إلا “تركيبة” ماليّة ونقدية لمرحلة ما بعد “17 تشرين” تحظى برعاية سياسية كاملة، وممنوع المسّ بها. وهذا هو معنى إحراق خطّة النواب الأربعة قبل قراءتها.
كانت وظيفة سلامة في هذه التركيبة أن يوفّر قنواتٍ خارج القانون، وخارج المسؤولية السياسية للحكومة، لضخّ ما بقي من دولارات المودعين لدى “مصرف لبنان” في قناتين محدّدتين: إحداهما تمويل الإنفاق الحكومي، لا سيّما رواتب الإدارة العامّة، والثانية للتدخّل في سوق القطع عبر منصّة “صيرفة”.
التركيبة والمنظومة
تشكّلت هذه التركيبة بحكم حاجة المنظومة السياسية إلى إبقاء الوضعَين الماليّ والنقديّ تحت السيطرة لأطول وقت ممكن، في ظلّ تعطّل قدرة الدولة على تمويل نفقاتها من أسواق الدين المحلّية والعالمية، منذ أن توقّفت حكومة حسان دياب عن السداد في آذار 2020. وزاد الأمور سوءاً تحلُّل الإدارة العامّة وتراجع الإيرادات الضريبية والاستثمارية.
مع انقطاع التمويل الخارجي في مرحلة ما بعد “17 تشرين”، تحوّلت رواتب موظّفي الدولة إلى قنبلة كبرى تهدّد الاستقرار النقدي والماليّ، لأنّها عبارة عن كتلة نقدية تُضخّ كلّ شهر، وتتحوّل على الفور إلى طلب استهلاكي، ثمّ إلى طلب على الاستيراد وطلب على الدولار، وهذا هو مصدر التهديد بالانهيار النقدي والانفجار الاجتماعي.
المضمون الحقيقي لِما يُعرض على الأربعة هو أن يستمرّوا في إدارة منظومة رياض سلامة من دون المسّ بها، لكن من دون أن يتحمّلوا المسؤولية الأدبية والقانونية
لتتفادى الدولة انهياراً كهذا، كان أمامها خياران لا ثالث لهما: إمّا أن تأخذ الأمر على عاتقها فتتحوّل إلى دولة فاعلة قادرة على القيام بوظائفها الطبيعية، ومنها توفير التمويل لإنفاقها، وهذا يتطلّب تنازلات عن مزايا الطبقة الحاكمة لتنفيذ الإصلاحات التي يشترطها صندوق النقد الدولي، وإمّا أن تعهد بالأمر لسلامة ليتدبّر التمويل من القليل الباقي من ودائع الناس. وقد اختارت الثاني بلا تردّد.
قدّم رياض سلامة نفسه للطبقة السياسية رجلاً يمكن الاعتماد عليه، حين أثبت للجميع جرأته في إصدار التعاميم المخالفة لقانون النقد والتسليف، من دون انتظار غطاء من الحكومة أو وزير الوصاية. يكفي أن يجتمع بالمرجعيات السياسية المعنيّة ويتّفق معهم على المسار “ليأخذ الأمر بصدره”، وتلك هي العبارة التي تُستخدم بكثرة هذه الأيام كناية عن الجرأة على مخالفة القانون.
الحلّ العبقريّ لسلامة
تدبّر سلامة الأمر بالفعل، وكانت مهمّته أن يصرف الرواتب من دون أن تنهار الليرة. فكان حلّه العبقريّ بصرفها بالدولار من أموال المودعين، بعد تنفيذ حسم كبير عليها عبر احتسابها على سعر “صيرفة” الذي لا يرعاه أيّ قانون أو قرار حكومي. بتلك الطريقة استغنى سلامة عن طباعة المزيد من الليرات واستعاد السيطرة على الكتلة النقدية. لكنّ ذلك لم يكن عبقريّة، بل كلّ ما في الأمر أنّ سلامة “أخذ بصدره” قرار استخدام أموال المودعين لدفع الرواتب وتسيير أمور الدولة العاجزة عن تمويل نفسها.
كانت تلك القطعة الأهمّ في التحوُّل إلى الدولرة الشاملة، وتحويل وظيفة العملة الوطنية في التعامل اليومي إلى “فراطة” لا أكثر. فما من أحد يحمل النقد اللبناني لسداد مدفوعات ذات قيمة، ولو حتى لدفع فاتورة في مطعم، بل إنّ الورقة العليا في النقد اللبناني لم تعد تُستخدم إلا لدفع الإكراميّات أو لردّ الكسور التي تتوافر بالدولار. وهكذا بات المعروض منها لا يشكّل خطراً على الاستقرار النقدي في المدى المنظور.
حقيقة الإشكال الراهن هو أنّ رياض سلامة ذاهب إلى بيته، ولم تفلح كلّ المحاولات للتجديد له، فباتت الدولة مجدّداً أمام الخيارين نفسَيْهما: الإصلاحات أم استخدام أموال المودعين؟
خطّة نوّاب الحاكم
ما قدّمه نواب الحاكم ليس إلا الخطة البديهية، بل يمكن الزعم بأن ليس فيها سطر واحد يمكن استبداله لو أنّ الدولة تحتكم إلى الحدّ الأدنى من الحسّ السليم.
ما البند الذي يصحّ وصفه بالتعجيزي؟ هل هو إقرار موازنة السنة الحالية في الشهر الثامن منها؟ هل هو تقديم موازنة 2024 في الموعد الدستوري؟ هل هو إقرار قانون الكابيتال كونترول بعد انقضاء أربع سنوات من الأزمة واستنزاف 22 مليار دولار من احتياطات مصرف لبنان؟ هل هو توحيد سعر الصرف والتخلّص من أبشع “تنفيعة” للنافذين وتجّار العملة في تاريخ الجمهورية؟ حتى البند الإشكاليّ المتمثّل في طلب إجازة صرف 200 مليون دولار من الاحتياطيّات لإقراض الدولة شهرياً، ما البديل المطلوب؟ هل هو الصرف بلا إجازة قانونية، وبلا قيود لاستدانة الدولة وفق الأصول؟
في الأسبوع الأخير، زال الحياء في الدفاع عن سياسات سلامة، وبات هناك من يقول علناً: “إمّا بقاؤه بقوّة الأمر الواقع وإمّا الانهيار”. يأخذ بعض المعلّقين على نوّاب الحاكم مطالبتهم بغطاء قانوني لتغطية المنظومة غير القانونية التي بناها سلامة، ويعيّرهم بأنّ ذلك دليل على ضعفهم. ويهدّدهم آخرون بالمقاضاة إذا تخلّفوا عن البقاء في مواقعهم. وانصبّ التهويل بشكل أخصّ على أنّ انهياراً كبيراً للّيرة سيحصل إذا أُلغيت منصّة “صيرفة”. وذاك تهويل مبالَغ فيه للأسباب التالية:
1- من الخداع الزعم أنّ “صيرفة” منصّة لتداول القطع الأجنبي بيعاً وشراء، فالواقع العملي يؤكّد أنّها آليّة بدائية لضخّ الدولارات من مصرف لبنان إلى السوق وحسب. أمّا شراء الدولارات فيقوم به مصرف لبنان بآليّات أخرى غير شفّافة وبأسعار غير معلنة. وما يطرحه نواب الحاكم هو إيجاد منصّة بديلة وفق المعايير المتعارَف عليها في العالم المحترم، توقف نظام “السعرين” الذي يستفيد منه حفنة من المحظيّين ويكبّد مصرف لبنان خسائر بمئات ملايين الدولارات شهرياً، وتفعيل الآلية الطبيعية لضخّ النقد الأجنبي من خلال مزادات العملة.
2- إنّ حجم الكتلة النقدية بالليرة لم يعد يساوي أكثر من 860 مليون دولار بسعر السوق (79 تريليون ليرة)، وهو رقم لا يساوي أكثر من 15% ممّا كانت عليه الكتلة النقدية في 2019. وفي العموم، لم تعد العملة اللبنانية مستخدمة لحفظ المدّخرات، بل لتسيير النفقات اليومية في غالب الأحيان. ويمكن الجزم أنّ معروض الدولارات في السوق كافٍ لموازنة الطلب، أقلّه حتى نهاية الصيف، ما لم تتدخّل مضاربات فوق العادة.
3- إنّ حجم العجز في ميزان المدفوعات تراجع بشكل كبير في الأشهر الماضية، بل إنّه تحوّل إلى فائض في نيسان بنحو 62 مليون دولار، ثمّ إلى عجز لم يتجاوز 6 ملايين دولار في أيار. وهذا يشير إلى أنّ بالإمكان تحقيق قدر معقول من التوازن في سوق القطع إذا ما أُديرت السياسة النقدية بكفاية ونزاهة.
4- يأتي الخطر الحقيقي على الليرة من عجز الماليّة العامّة، وتحديداً من زيادة رواتب القطاع العامّ والعودة إلى دفعها بالليرة. والمسؤول عن مواجهة هذا الخطر الحكومة، لا مصرف لبنان. وتحمُّل المسؤولية يكون بأن “تفطم” الدولة نفسها عن الصرف من أموال المودعين وتبحث عن مصادر أخرى لتمويل إنفاقها، ولو تطلّب الأمر بعض التواضع لإعادة التواصل مع صندوق النقد الدولي.
يقود كلّ ذلك إلى القول إنّ “الانهيار الكبير” الذي يتمّ التهويل به لن يحدث إلّا بفعل فاعل. وربّما ذلك الفاعل هو من دفع الدولار إلى الارتفاع فجأة في الأسبوعين الماضيين، للتذكير بما لديه من أوراق.
كلّ الصراخ والتهديد والتهويل على نواب الحاكم ليس إلّا لأنّهم يرفضون الاستمرار في تقديم الخدمات المخالفة للقانون. وقد تبيّن الآن أنّ إطار “تركيبة” سلامة لا يتوقّف عند من يحمونه علناً، بل يشمل بعض مَن لا يكفّون عن مهاجمته، وبالذات التيار العوني الذي كان شريكاً في تغطية الصرف من الاحتياطي بلا إجازة قانونية.
إقرأ أيضاً: من يهوّل بـ “الانهيار الكبير” بعد رياض سلامة؟
يمكن فتح قوسين هنا للسؤال عن السبب الذي دفع سلامة إلى “أخذ الأمور بصدره”؟ هل يستقيم الزعم أنّ المصلحة العامّة وحدها دفعته إلى إنفاق 22 مليار دولار من أموال المودعين في خدمة “الستاتيكو” السياسي والماليّ والنقدي؟ فليُترك الجواب لمقامٍ سياسيّ وقضائيّ آخر.
السوريالي في المشهد أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير ماليّته يوسف خليل يتصرّفان وكأنّ الأمر لا يعنيهما. وحتى حين اجتمعا بالنواب الأربعة يوم الإثنين، بدا كما لو أنّهما يتوسّطان كطرف محايد.
المضمون الحقيقي لِما يُعرض على الأربعة هو أن يستمرّوا في إدارة منظومة رياض سلامة من دون المسّ بها، لكن من دون أن يتحمّلوا المسؤولية الأدبية والقانونية. ولا بأس إذا اقتضى الأمر أن يستقيلوا لتبرئة ذمّتهم، مع استمرارهم بتسيير المرفق العامّ. المهمّ أن يستمرّ تمويل الدولة خارج القانون والمسؤولية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@