بيروت على جدران بيتها

مدة القراءة 5 د


تفتح عينيك ملء جفونك. تنقشع بيروت أمامك مدينةً هي “ستّ الدنيا”، مدينةً تعجّ بالشجر والبشر والمباني والبيوت العريقة التي من كلّ فن ولون. لا يحدث هذا وأنت تدخلها قادماً من الجنوب، أو من الشمال، أو من الجبل.
يحدث هذا وأنت على الأرض عند مستوى البحر، تعلو قليلاً، لكن لا تعلو أكثر من موجة. ويحدث هذا وأنت على الساحل بالقرب من الشاطئ، لا وأنت تقف على قمّة جبل، أو على رأس سفينة، أو في أحضان طائرة.
كلّنا قدمنا إليها وجعلناها “شوارع بيروت الحرب اليومية” على ما غنّت الجميلة أُميمة خليل. زعمنا أنّ خيرات المدينة “لنا ونحن زرعناها وكنّا أسياد الأرض ببنادقنا” يساراً ويميناً. لكنّ ردّها كان رائعاً: “أنا أُعطي لا لآخذ ولا أحد يتسيّد على هذه الأرض”.

بيت بيروت
تنقشع بيروت أمامك وأنت في قلب بيروت. بل في قلب “بيت بيروت” تحيط بك الجدران من كلّ الجهات. كيف؟ بفضل الذي صوّر. لماذا؟ “لنحافظ على ما بقي ونتذكّر الذي كان”، كما يقول جواد عدرا. من؟ معرض نابو، ومَن سواه؟ أين؟ في “بيت بيروت”. متى؟ أول من أمس..
للدقّة، في أيّامنا هذه، وزمننا هذا. في بيروت وبين المنقسمين عليها وحولها وفيها، وهي هي لا غير، “الخصم والحكَم”. بيروت قبل قرنين إلّا نيّفاً هنا، وإنّ صوراً وخرائط في أحضان الماضي معلّقةٌ على جدران في “بيت بيروت”.
بيروت قبل قرن، صوراً وخرائط، هنا أيضاً على الجدران. وبيروت التي من لحم ودم، حاضرة كذلك، لكن خارج الجدران. الأرجح أنّها معلّقة في أذهان الداعين والمعدّين وكلّ من ساهم وشارك وأعدّ وزار. معلّقة هي أيضاً خارج الجدران كذلك، على أوهام البعض بالإلغاء والسيطرة والهيمنة، وعلى أضغاث أحلامهم بامتلاك الأمس والغد، تحت سطوة سلاح اليوم.

[VIDEO]

بيروت وخلاصها
“بيت بيروت” أمس كان حلم بيروت وسبيلها إلى الخلاص. “بيت بيروت” أمس كان مربط آمال الآملين بغدٍ بيروتيٍّ يشبه الأمس وربّما أبهى.
شاء معرض نابو هذه المرّة أن يدعو اللبنانيين إلى “بيروت 1840-1918، صور وخرائط”، في بيت بيروت في السوديكو، لنشاهد صوراً قد تكون وحدها، إذا ما رآها المتزاحمون والمتنافسون والمتقاتلون والمنقسمون بعضهم على بعض، الخلاص وسبيل الحلّ.
خلاص المدينة وخلاص الوطن. ربّما إذا رأوا كيف كانت بيروت في تلك الحقبة، قبل مئة وثمانين عاماً، وكيف صارت اليوم، فسيدركون إلى أين تنتهي طريق الذين سبقوهم إلى السيطرة والغلبة والإلغاء والحرب، طريق الذين سبقوهم إلى الوهم، علّهم يعودون أدراجهم، وينزلون عن صهوة رؤوسهم الحامية ورهانات المحرّكين الخارجيين. والطريق تلك موجودة في كلّ الصور. الصور كلّها التُقطت لتلك الطريق علّ السائرين عليها يدركون.

بيارتة من إسمنت
في المعرض صور كثيرة لبيروت، ومبانيها وبيوتها وناسها وفقرها وجوعها وعزّها وجمالها وبهائها، لأشجارها وساحاتها وغاباتها، لبيروت الطفلة التي صارت امرأةً بكامل أنوثتها ثمّ عجوزةً هرمةً تأبى إلا أن تظلّ على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، ثمّ طفلةً من جديد.
لبيروت القرية التي تحيط بها الأشجار من كلّ جهة، والتي صارت مدينةً ولا كلّ المدن.
في المعرض صور كثيرة تغطّي كائنات كثيرة مرّت من هنا. كائنات على هيئة أناس عاديّين أو أشجار باسقة، أو مبانٍ عاشت عمرها ومضت إلى المقبرة بعدما تركت مكانها مبانيَ راحت تكبر وتنمو كما الأطفال.
بلى الناس يُنجبون أناساً ويتركونهم خلفهم، وكذلك تفعل الأشجار مع الشجيرات والمباني مع الأبنية. هي سُنّة الحياة وسُنّة المدن. كلّ ما في المدينة يتقدّم في السنّ ويهرم ثمّ يرحل تاركاً خلفه من يحمل اسمه ويحرس المكان، إلّا بيروت، فهي تنمو وتكبر وتزدهر ثمّ تنطفئ وتخبو، لتُبعث من جديد مدينةً ولا كلّ المدن.
وحدها بيروت لا يحرس مكانها أو يحمل اسمها إلّا بيروت. هذا ما تشي به الصور المعلّقة على الجدران. وهذا ما تشي به بيروت التي على جدران “بيت بيروت”، وتقوله لأهلها الذين يتقاتلون في ربوعها.
بعد زيارة المعرض، لا بدّ أن تختلف علاقتك ببيروت. لا بدّ أن تنتقلا، أنت وهي، إلى علاقة جديدة. بيروت بعد المعرض يصير كلّ ما فيها فرداً من أفراد عائلتك. تتذكّره وأنت تحادثه طفلاً ثمّ رجلاً ثمّ عجوزاً هرماً ثمّ طفلاً من جديد أو طفلةً.
بعد زيارة المعرض لن تقف مكتوف الأيدي أمام مبنى العازارية. ستقترب منه وتضع يدك على رأسه وأنت تتذكّره صغيراً يوم كان برج الشلفون، ثمّ ستقبّله شابّاً وهو دير للراهبات العازاريّات وتجلس بالقرب منه وهو في كهولته الآن، وإن صبغ شعره وتزوّج من جديد.
بعد زيارة المعرض، ستدنو من المباني الضخمة وتسقيها ما أمكنك من الماء، لئلّا تيبس، فحتماً ستتذكّر أنّها كانت أشجاراً صغيرةً ثمّ كبرت وكبرت حتى صارت مبانيَ عملاقةً جذورها ضاربة في الوطن.

بيروت بعد الصور وخارجها
بعد المعرض وفور خروجك من السوديكو متّجهاً إلى أحد شوارعها، خصوصاً نحو شمال شرقها متسكّعاً بين أجيال لا تعرفها ولا تعرفك مُستذكراً خوالي الأيام التي حملت قضايا أعرض من البلد كلّه، لا بدّ ستتذكّر أنّ جزءاً من المدينة كبر وجُنّ حتى صار مجمّعاً للحجر الصحّي، ثمّ بُعث فيه العقل من جديد وعاد حيّاً اسمه الكرنتينا.
كلّ شيء كبر. السفن الصغيرة صارت ميناءً. والمخزن صار أهراء ثمّ دُفنت في البحر، لتنبت من جديد حتماً. والأحلام التي كانت تطير صوب السماء صارت مطاراً.
إذا حدّقت في الصور مليّاً فسترى الدمار وهو يقيم فيها، يرافقه الجوع والبؤس والحرمان، ثمّ تودّعهم إلى رجعة أو إلى غير رجعة. لكنّك ستُدرك أنّهم ضيوف عابرون، تلفظهم بيروت كما لفظتهم من قبل.

إقرأ أيضاً: أما من مقعدٍ للغد في الجنوب؟

وسترى الزائرين، أباطرةً وسلاطين وملوكاً وأناساً عاديّين، وترى كيف يرحلون وتبقى. في المعرض ستسأل عن الغزاة، ولن تراهم. لن ترى لهم أثراً، بل سترى بيروت وهي تضحك عليهم وتسخر منهم، تماماً كما تجلس الآن على جدران “بيت بيروت” في صورٍ، وتضحك وتسخر من القابعين في شوارعها وأزقّتها ومبانيها وخلف متاريس تغرق رويداً رويداً في الصور والبحر ولا يعلقون يوماً على ضميرها الحيّ أبداً.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…

90 عاماً من فيروز: صوت تاريخنا… ولحن الجغرافيا

اليوم نكمل تسعين سنةً من العمر، من الإبداع، من الوطن، من الوجود، من فيروز. اليوم نحتفل بفيروز، بأنفسنا، بلبنان، وبالأغنية. اليوم يكمل لبنان تسعين سنةً…

سيرتي كنازحة: حين اكتشفتُ أنّني أنا “الآخر”

هنا سيرة سريعة ليوميّات واحدة من أفراد أسرة “أساس”، وهي تبحث عن مسكنٍ لها، بعد النزوح والتهجير، وعن مساكن لعائلتها التي تناتشتها مناطق لبنان الكثيرة…

الياس خوري: 12 تحيّة لبنانية وعربية (1/2)

العبثيّة، ثيمة تكرّرت في روايات الياس خوري بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. عبثيّة إمّا نحن نخوضها لتحرير الأرض والثورة على الجلّاد غير آبهين بحياتنا…